محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

قبضة القيادة الحديدية

لم يأتِ لقب «المرأة الحديدية» الذي أطلقه الإعلام الروسي على رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر، من فراغ، حيث تجلت القدرة القيادية لثاتشر في حادثة وصفت بأنها أطول نزاع صناعي في القرن العشرين، أضرب على أثره معظم عمال مناجم الفحم عام 1984 بعد اعتزام حكومة ثاتشر إغلاق تلك المناجم التي كانت توظف نحو 200 ألف شخص.
تلك القضية ملأت الدنيا وشغلت الناس، واستمرت لأكثر من مائتي يوم من الإضرابات والمواجهات مع عناصر الشرطة، وقيل إنها كلفت نحو 3 مليارات جنيه إسترليني، وهو مبلغ هائل في تلك الحقبة. في ردها على ما حدث اعتبرت ثاتشر تلك الحادثة خروجاً على القانون وتهديداً للديمقراطية والاستقرار في بلادها، فألقت خطبة عصماء في البرلمان قالت فيها لممثلي الشعب بعد أن حدث ما حدث: «سوف ترون قيادة جديدة» في هذه البلاد، وكررتها مرتين بنبرة حادة. وبالفعل بدأت المواجهات وتعثرت كل سبل المفاوضات مع ممثلي النقابات التي دعت للإضراب. وبعد مخاض عسير عاد المضربون «بخُفَي حُنين».
ما يهمنا في هذه القضية كيف تعاملت تلك القيادية مع هذه الأزمة الوطنية التي شلت البلاد. كانت النتيجة أن عمال المناجم لم يحصلوا على مرادهم، ومضت الدولة في خطتها التي رأتها مهمة لوضع حد لنزيف المصاريف في مشروعات لم تعد ذات جدوى، حيث انخفض عدد المناجم من 170 إلى نحو أقل من عشرين منجماً حالياً. والأهم نجحت الإدارة الحكومية في تمرير قانون يحد من صلاحيات النقابات في الدعوة لإضراب عام من دون الحصول على موافقة نحو 85 في المائة من الأعضاء، وانتزاع حق النقابات في تعويض المشاركين في إضراب لم يحصل على النسبة القانونية، وذلك في مسعى لتفويت الفرصة على قلة من قيادات النقابات التي قد تلجأ للتصعيد بإضراب شامل لاعتبارات سياسية أو لتنفيذ أجندتها الخاصة. ومع ذلك لم تصادر الحكومة حق هؤلاء المشروع في الاعتصام أو الإضراب. حدث ذلك كله ولم نقرأ عن حمام دم أو إطلاق أعيرة نارية أودت بحياة مئات مثلما نشاهد في عالم الديكتاتورية. ولكن هذا لم يمنع السلطات من اعتقال نحو 11 ألف شخص ومعاقبة نحو خمسة آلاف ارتكبوا مخالفات مختلفة.
هذه القضية التي دخلت التاريخ عبر أدبيات الإدارة والقيادة والسياسة تعطي لنا مثلاً على أن التجاوب مع مطالب الجماهير ليس دائماً قراراً صائباً، فقد يلجأ الناس لتصعيد تبدو للقيادة خطورته، وسرعان ما يتراجعون حينما يرون صلابة موقف القيادات الرشيدة.
صحيح أنني نقابي سابق، ولا أميل لمصادرة حق النقابات في إبداء رأيها نحو تدهور أوضاعها، ما لم تخل بالنظام العام، لكنني مع فكرة أن القيادي من حقه أن يمضي في قراراته إذا رأى من خلال فريق من المختصين، وبناء على دراسات أو آراء موضوعية، أن في قراره مصلحة مهمة للبلاد والعباد. وهذا الموقف مدعاة للتأمل من قبل وزراء في العالم العربي سرعان ما يتراجعون عن مشروع تنموي مهم فور ما تطلق ضدهم حملة عاصفة في وسائل التواصل الاجتماعي أو «هاشتاغ» هزيل وربما مفبرك من قبل ملايين المتابعين الوهميين، فيفوت الوزراء على بلدانهم فرصة ذهبية كان يمكن أن تخلد ذكراهم.
إن القيادي الفذ هو من يُحكَم على رجاحة قراراته ورؤيته الثاقبة بعد ردح من الزمن حينما تحط حرب المواجهة أوزارها، فتزول العاطفة وتحل محلها الموضوعية. والقيادة الفذة، مثل أحداث التاريخ، لا تستطيع أن تستوعبها أحياناً إلا بعد مدة زمنية ليست بالقصيرة.