فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

حول الطرق الراديكالية إلى القدس

بعد قرار ترمب اعتبار القدس عاصمةً لإسرائيل، تصاعدت الأصوات الآيديولوجية من شتى الأطراف، متحلقين ومستخدمين كالمعتاد هذه القضية لتصفية الحسابات مع الدول موضع الكراهية. وبما أن قضية فلسطين هي أكبر مركز تجمع لكل الشبكات الآيديولوجية اليسارية والقومية والإسلامية، هرعت جيوش تلك التيارات لضرب صورة السعودية تجاه القضية الفلسطينية، ولن نتدخل كثيراً بتعداد المواقف السعودية المشرفة تجاه الفلسطينيين طوال تاريخ القضية لأن في هذا نزولاً إلى السجال الآيديولوجي العقيم، بل يجب أن نتناول بشكلٍ أساسي الجدوى من الاستخدام الحركي لهذه القضية، ومحاولة الانقضاض على السعودية ودول الخليج باسم الدفاع عنها.
معلومٌ أن العرب وقفوا مع الفلسطينيين بمبادراتٍ وإدارة مفاوضات ودفاعٍ عن الكيانات والمقدرات، ولكن ليس سراً أن النخب الفلسطينية ساهمت في تهميش القضية وإضعافها، والمقامرة بها. ثمة استثمارات لساسة عقدوا صفقاتٍ مع الإسرائيليين للاستفادة من فرص بناء المستوطنات من خلال شركات مقاولاتٍ يملكونها، وآخرين قاموا بالدعم لبناء الجدار العازل. وأما حركة حماس، فمن خلال بعض تصرفاتها غير المسؤولة وأعمالها التخريبية، شوهت صورة القضية لدى العرب والعالم. وفي تقاربها مع إيران و«حزب الله»، توّجت كل الخراب الذي قامت به منذ تأسيسها، فهي علاوةً على التكوين الإخواني الفكري والحركي، إيرانية الإدارة والتمويل. لقد ساهمت حماس بتسليم القضية إلى إيران، وفرغتها من مضمونها، وأضعفت من مصداقيتها، وهي المسؤولة عن عزوف الأجيال الجديدة عنها وعدم اهتمامهم بها.
استخدم الإخوان المسلمون القضية بغية تعزيز حضورهم على الأرض، والتنظيم السروري في السعودية كان يستخدمها في المنابر والمحاضن التربوية، وإحدى المجلات الإخوانية كانت دليل التوجه السروري تجاه فلسطين، يتحلقون مجتمعين قارئين ملفاتٍ حول البرنامج الحركي، وتضعضع الحكومات في مواجهة إسرائيل، والبحث عن إمكانات التجنيد والمواجهة، وكانت مقالات كثيرة بمثابة خريطة لتحريك أفكار الجيل السروري آنذاك، مثل كتابات فتحي يكن. وقد كان لسفر الحوالي أثر كبير في رسم توجه التنظيم تجاه القضية من خلال المحاضرات والدروس، وقد طرح كتاباً له أثره في عام 2000، بعنوان «يوم الغضب في انتفاضة رجب»، وفيه تنبأ بنهاية دولة إسرائيل، وبحث في «الشخصية اليهودية» من خلال أسفار التوراة والأناجيل؛ لقد كانت القضية هي الوقود الذي يبقي الحركيين على مستوى من التحفز والاندفاع.
على مستوى تنظيم القاعدة، فقد استغلت قضية فلسطين من أجل تعزيز إمكانيات الحركات الإرهابية. وبعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، بثت قناة الجزيرة شريطاً حصلت عليه من تنظيم القاعدة، وفيه «قسم بن لادن الشهير»، الذي يقول فيه: «أقسم بالله العظيم أن أميركا لن تنعم بالأمن ما لم نعشه واقعاً في فلسطين»، علماً بأن تركيبة تنظيم القاعدة وبرنامجه الرئيسي ليس من أهدافه الأولى تحرير فلسطين، بقدر ما يهدف إلى إسقاط الحكومات الإسلامية «الكافرة»، ومواجهة الصليبيين في «جزيرة العرب» وفي كل مكانٍ بالعالم، ولكنه كغيره من الحركات الإرهابية أراد استخدام القضية لتجنيد أكبر عددٍ من الأتباع، ولوضع مشروعية للتنظيم بين الشبيبة على امتداد رقعة الإسلام.
كذلك الأمر لدى الميليشيات الشيعية؛ فصيل قاسم سليماني اختار اسم «فيلق القدس»، وهو لا علاقة له بها ولا بتحريرها على الإطلاق. كذلك الأمر لدى «حزب الله» الذي يعتبر القدس محور ارتكاز في الخطابات المنبرية ووسائل التجييش الميدانية، وقد استخدم القضية للإبادات الجماعية في سوريا، وتصريح حسن نصر الله مشهور بأن الطريق إلى القدس يمر عبر «القلمون والزبداني»، حيث سحل الأطفال والنساء، وحيث القتل الجماعي المغطى بوسم «القدس»، والمغلف بشعار «القضية الفلسطينية».
هذا الاستخدام البشع للقضية يجعل منها موضع سؤال عن الجدوى من استخدامها والضخ بشعاراتها والركون إلى تاريخيتها المزعجة؛ لقد تحوّلت إلى ميدانٍ للاقتصاص من الإنسانية والمروق عن القيم المدنية، والتحفيز على ولاداتٍ حزبية وحركية.
وعليه، فإن مناقشة آثار القضية هي ردة الفعل الصائبة تجاه الهجوم على السعودية، بدلاً من الوقوع الإعلامي في فخ المزايدات، وتكرير التبريرات، أو الوقوع في شرك التذكير بالمواقف المشرفة لدول الخليج تجاه الشعب المعني بالقضية. علينا أن ننظر إلى القضية بعقلانية وواقعية، وهذا يحتاج إلى شجاعة فكرية من قبل المختصين والإعلاميين لتجاوز الهدر السياسي تجاه القضية، خصوصاً وقد غدت أداة متاجرة وسمسرة، وعلى حد قول نزار:
كانتْ فلسطينُ لكمْ.. دجاجةً من بيضِها الثمينِ تأكلونْ
كانتْ فلسطينُ لكمْ.. قميصَ عثمانَ الذي بهِ تُتاجِرونْ