فرانسيس ويلكنسون
TT

إنها الحرب... و«واشنطن بوست» تدرك ذلك

كشفت صحيفة «واشنطن بوست» عن حالة من الغش هذا الأسبوع، ولكنها كانت قضية غير مثيرة للاهتمام بشكل ملحوظ. ولكن كان هناك شيء غير اعتيادي بشأنها. والمؤسسات الصحافية الرائدة تتصرف أحياناً كما لو كانت تترفع كثيراً عن ألاعيب مهرجي الأحزاب السياسية، فهل هذا يعد نوعاً من أنواع أفلام التجسس الرخيصة؟ إنه أمر لا يكاد يستحق النظر أو الاعتراف بوجوده، فضلاً عن سبر غور أساليبه وتكتيكاته.
وقد يعزو النقاد مثل هذه المواقف إلى الغطرسة المتعالية، وهذا صحيح بصورة من الصور. ولكنها غطرسة مؤسسة لا تؤمن فقط بأهمية رسالتها وقيمها الصحافية، وإنما بجودة أساليبها التي لا تقبل الجدال، والتي خضعت للكثير من الصقل والتنقيح عبر عقود مستمرة من العمل.
إن التحيز صفة بشرية غالبة. ولكن جهود ضبطها، واحتوائها، وتقييدها هي من أعمال المؤسسات في المقام الأول. والمُثل المؤسسية المتبناة والمشجعة والتي يجري تنفيذها على نحو متقن في أماكن مثل صحيفة «واشنطن بوست» تدور حول فحص ميدان المعركة بكل عناية ومسحه، حتى وإن لم تكن من بين المقاتلين في الميدان.
ولكن، ليس بعد الآن.
لقد كشفت صحيفة «واشنطن بوست» عن أساليبها في معرض تعاملها مع عملية الاحتيال التي أدارها «مشروع فيريتاس»، المعنيّ بكشف قضايا الفساد في المجالين العام والخاص، والذي يشرف عليه جيمس أوكيفي، وهو النسخة الأحدث سناً وربما الأقل التزاماً بالمبادئ من المحرض اليميني روجر ستون. والسيد أوكيفي، الذي يحصل على راتب سنوي يبلغ 317 ألف دولار بفضل تبرعات أنصار التيار اليميني، قد حاول ذات مرة أن يستميل إحدى مراسلات شبكة «سي إن إن» الإخبارية إلى قارب حيث كان يعتزم إغواءها – إذا كان هذا هو المصطلح الصحيح في توصيف نياته – وكان يصور النتائج على نحو سري. غير أن أحد زملاء أوكيفي المذهولين من التجربة قام بتحذير المراسلة مقدماً، مما جنّبها ما لا تُحمد عقباه مما لا نعرفه.
وفي هذه المرة، دفع بامرأة للاتصال بأحد مراسلي صحيفة «واشنطن بوست» والادعاء بتعرضها لمحاولة اغتصاب من جانب روي مور، المرشح الجمهوري لمجلس الشيوخ عن ولاية ألاباما. ولقد كانت قصة كاذبة، في محاولة رخيصة لدفع الصحيفة إلى نشر الأخبار الكاذبة. وبالتالي ينتفض السيد أوكيفي صعوداً وهبوطاً للكشف عن أباطيل الصحيفة. ومن شأن مواقع مثل «فوكس نيوز»، و«راش ليمبو»، و«بريتبارت» – أي أفاعي الإعلام اليميني المتطرف المتسللة – أن تذكر القصة كدليل دامغ على أن صحيفة «واشنطن بوست» ليست إلا كومة من الرسوم المتحركة الهزلية والأكاذيب الليبرالية القميئة. ولسوف تكون بمثابة وثبة هائلة إلى الأمام في الحرب المعرفية لتيار اليمين المتطرف.
ولكن مراسلي «واشنطن بوست» استشعروا الأكاذيب الإضافية التي طُرحت لإسناد الادعاءات الباطلة الأساسية. ثم فعلوا أمراً غير معهود بهم. وهو أنهم قاتلوا تلك الادعاءات. ولقد تخلوا في ذلك عن عهود السرية بالكشف عن المصادر الزائفة وصوروا المدعي الكاذب من «مشروع فيريتاس» على الكاميرا وعلى الصفحة الأولى بالصحيفة.
ومن المشكوك فيه للغاية أن تكون صحيفة «واشنطن بوست» قد انتهجت هذا الأسلوب في العمل في غياب رئاسة السيد دونالد ترمب للبلاد. ظل التيار المحافظ وأنصاره يهاجمون وسائل الإعلام السائدة لما يزيد على نصف قرن من الزمان، ويحددون مواطن التحيز الليبرالي في القصص الصحافية التي لا تروق لهم، في حين أنهم يتعاملون مع القصص الاستقصائية حول الأخطاء الليبرالية كأنها من آيات الكتب المقدسة. غير أن السيد ترمب وحلفاءه لا يحاولون توجيه النقد ضد وسائل الإعلام المهنية بغية تحقيق أي ميزات سياسية. بل إنه يحاول القضاء عليها تماماً، مع اعتقاد راسخ بمساندة الحقيقة نفسها في تنفيذ ذلك.
وفي مبادلة لرسائل البريد الإلكتروني، اعتبر البروفسور جاي روزين، أستاذ الصحافة بجامعة نيويورك (والذي كان من بين أهداف السيد أوكيفي أيضاً) تفاعل صحيفة «واشنطن بوست» دليلاً على أن مارتن بارون محرر «واشنطن بوست» يعترف بأن رئاسة السيد ترمب للبلاد تشكل في جوهرها تهديداً للصحافة ذاتها.
وتنازُل محرري صحيفة «واشنطن بوست» عن قواعدهم غير الاعتيادية للكشف عما حدث - وشرح الأمر للقراء لماذا اضطروا إلى اتخاذ هذه الخطوة الاستثنائية - يشير إلى أنهم قد خلصوا إلى أن هذه الأوقات استثنائية للغاية، وأن الالتزام بالممارسات العادية للعمل لن تفيد في شيء. ويفضل مارتن بارون وصف الأمر بقوله: «لسنا في حرب ضد أحد، بل إننا نباشر أعمالنا فحسب». ولكنه يدرك بكل وضوح أن هناك حرباً شعواء ضد الصحافة، وضد مبادئ التحقق نفسها، وأن الأمر سوف يستغرق كل ما يلزم من صحيفة «واشنطن بوست» لكي تظهر وتسود.
إن الصحافة هي فن التحقق من الأخبار. ولكن هناك قوى خفية تحاول عكس توجهات التحقق نحو الوراء. ويحدث هذا عندما تتعامل مع الحقائق التي تأكدت مزاعمها وتحاول إضفاء المزيد من الشكوك عليها. ويُطلِق هذا الأمر نوعاً من الطاقات – مثل الجدال، والسخط، وحرب الثقافات، وردود الفعل العنيفة – والتي يستخدمها بعض الأطراف في خدمة أهدافها السياسية.
ويحاول أعداء الديمقراطية الليبرالية دائماً استخدام قيم المؤسسات الليبرالية ضد هذه المؤسسات نفسها. ولم يكن روجر إيلز، مؤسس شبكة «فوكس نيوز الإخبارية»، محاولاً إلقاء مزحة شيطانية سخيفة عندما اعتمد «الإنصاف والتوازن» شعاراً عاماً لشبكته الإخبارية، بل كان يحاول تقويض أركان كل مؤسسة صحافية كانت تعمل في الحقيقة على خدمة الإنصاف والتوازن. ولقد تعمد دونالد ترمب تحويل حملاته الانتخابية الرئاسية إلى هجمات مركّزة ضد الصحافيين الذين يغطون هذه الحملات.
وعلى الرغم من الكثير مما قد كُتب وقيل حول تهديدات النزعة «الترمبية» على الصحافة، فمن السهولة للغاية التقليل من شأنها. ألا تسود الحقيقة دائماً؟ ومن السهل أيضاً تعظيم شأن الهستيريا في وجه الحركات الديماغوغية التي تُعتبر الأكاذيب بالنسبة إليها ذات أهمية استراتيجية وليست فقط تكتيكية، ولكنها أكاذيب معتادة وعرضية تُستخدم في إغراق قدرة النظام على استيعاب الخطاب العقلاني.
إن من الصعوبة بمكان الوصول إلى حالة من التيقظ المتوازنة والمنصفة، وقد تكون السلبية ذات آثار مهلكة، ويرجع العمل الناشط بنتائج مدمرة. لقد أحسنت صحيفة «واشنطن بوست» صنعاً هذه المرة. فلقد هبطت بمهنة الصحافة عن قاعدتها الرصينة واستخدمتها سيفاً ماضياً ضد «قتلة» الشخصيات العامة الذين انطلقوا لاغتيالها بأرخص الوسائل. لقد كان أداء «واشنطن بوست» من التدابير المتواضعة، ولكن الضرورية للدفاع عن الذات. إنها الحرب ولا بد من الاستعداد لها.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»