خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

في السخرية من النحو والنحويين

بانتقال الحكم إلى بغداد، أصبحت عاصمة الدولة مدينة كوزموبوليتانية تعج بشتى القوميات والأصناف. أدى ذلك إلى تدهور مستوى اللغة الفصحى. أصبحت حكراً على المتعلمين والنحويين. كثيراً ما اختلفوا في النطق واضطر بعضهم للذهاب إلى البادية لمجرد أن يعرفوا من الأعراب كيف تلفظ كلمة أو يقال الكلام. وفعلوا مثل ذلك كلما وجدوا أمامهم زائراً أعرابياً في السوق. يتجمعون حوله ليسألوه ويستمعوا إليه بأفواه فاغرة عجباً. كان أن أخذ البعض يسخرون من الكلام الفصيح والنحوي. فظهر هذا الباب من أبواب الفكاهة، وهو الضحك على المتقعرين في اللغة.
برزت شخصيات مختلفة في هذا الخصوص، وشاعت النكات والطرائف و«التقليعات» عنهم. كان من أبرزهم أبو علقمة النحوي. أصبح بهلول اللغة. أراد أن يستفيق مبكراً فسأل خادمه: «أصقعت العتاريف؟» فأجابه الغلام قائلاً: «زقفيكم»، فسأله: وما زقفيكم؟ فرد عليه الغلام: وما العتاريف؟ قال: الديوك!
وروى أحدهم أن أبا علقمة ذهب ليستشير طبيب العيون في علة شعر بها، فقال للطبيب: «إني أكلت من لحوم هذه الجوازل فطسأت طسأة فأصابني وجع بين الوابلة إلى داية العنق، فلم يزل ينمو حتى خالط الخلب، وألمت له الشراسيف. فهل عندك دواء لذلك؟»، فأجابه الطبيب: «خذ حرقفاً وسلقفاً وشرقفاً ثم أهرقه ورقرقه واغسله بماء مروّث واشربه بماء الماء!»
فقال أبو علقمة: «ويحك! أعد عليَّ فإني لم أفهم».
قال الطبيب له: «لعن الله أقلنا إفهاماً لصاحبه. فهل فهمت شيئاً من كلامك؟»
قالوا وفي مناسبة أخرى احتاج إلى خدمات حجّام ليحجمه فبادره بالقول: «لا تعجل حتى أصف لك. ولا تكن كامرئ خالف ما أمر به وفعل غيره. أشدد قصب المحاجم، وارهف ظبّة المشارط، وأسرع الوضع وعجل النزعة، وليكن شرطك وخزاً ومصك نهزاً. ولا تردن آتياً ولا تكرهن أبيّاً».
فوضع الحجام محاجمه في قفته وقال: «يا قوم هذا رجل قد ثارت به المرة (مزاج السوداوية) ولا يصح أن يخرج دمه في هذا الوقت»!
وفي حكاية أخرى لم تترك القريحة النحوية هذا العالم. قيل بينما كان أبو علقمة النحوي في طريقه سقط فظن من رآه بأنه مجنون فأقبل رجل منهم، وراح يعض أذنه ويؤذن فيها فأفاق فنظر إلى الجماعة المحيطة به، وقال: «ما لكم قد تكأكأتم عليَّ كما تتكأكأون على ذي جنّة؟ افرنقعوا عني». فقال أحدهم: «اتركوه! فإن شيطانه يتكلم بالهندية!».
وفي حكاية بهلولية أخرى بعث بغلامه إلى شخص خاصمه. قال للغلام: «خذ من غريمنا هذا كفيلاً، ومن الكفيل أميناً، ومن الأمين زعيماً ومن الزعيم غريماً». ذهب الغلام وقال للغريم: «مولاي هذا كثير الكلام. فهل معك شيء له؟».
تدل كل هذه الحكايات على قرف الناس من متطلبات اللغة، بحيث أصبحت في آخر المطاف ضرباً من الفكاهة. ولا عجب أن وصفوا أبا علقمة بكلمة «النحوي».