«رق الحبيب وواعدني.. وكان له مدة غايب عني
حرمت عيني الليل من النوم.. لأجل النهار ما ييجي يطمني
صعب عليا أنام.. أحسن أشوف في المنام
غير اللي يتمناه قلبي
سهرت استناه.. واسمع كلامي معاه
وأشوف خياله قاعد جنبي».
تداعت الكلمات الرقيقة لأحمد رامي تعبر عن الاشتياق لمجرد أن الحبيب «رق» قليلا لمحبه.. لكن نغمات الموسيقار محمد القصبجي حملت الكلمات إلى أبعاد خيالية، وخاصة مع قدرات كوكب الشرق أم كلثوم البالغة في الأداء.
سرح عقلي مع الأغنية، وتذكرت أعمالا أخرى خالدة للقصبجي.. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: «يا صباح الخير ياللي معانا» و«ما دام تحب بتنكر ليه» لأم كلثوم أيضا، و«امتى ح تعرف» و«انا اللي استأهل» لأسمهان، و«بتبص لي كده ليه» و«أنا قلبي دليلي» و«مش ممكن أقدر أصالحك» لليلى مراد.
ومع تذكر النغمات الجميلة، آلمني إهدار حق قامة في مثل عملقة القصبجي في الموسيقى. يعرف أغلبنا دور الشيخ سيد درويش في تطوير الموسيقى الشرقية، ثم يأتي بعده جيل محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وغيرهم.. لكن الجسر الحقيقي وهمزة الوصل بين هذين الجيلين مجهولة - أو قد تكون مطموسة - لدى الغالبية العظمى منا.
القصبجي الذي ولد ربما في العام ذاته مع سيد درويش، ولكنه لم يلمع بالتزامن معه، وإنما تسلم الراية من بعده كعازف متمكن للعود وموسيقي بارع.. وتتلمذ على يديه قامات باسقة، يكفي أن نذكر من بينها محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ورياض السنباطي ومحمد الموجي (مع حفظ ألقاب الجميع). وهو أول من سعى لتلحين أوبرا مصرية خالصة، وهي «أوبرا عايدة» (وتختلف عن تلك التي لحنها الموسيقار الإيطالي فيردي في القرن التاسع عشر، احتفاء بافتتاح الخديو إسماعيل قناة السويس) بالمشاركة مع تلميذه النجيب رياض السنباطي في عام 1942.
مأساة القصبجي، في رأيي، بدأت من رائعته «رق الحبيب» عام 1941 التي تحدى فيها ذاته ليخرج لحنا غير مسبوق في ذلك العصر، لتشدو به معشوقته «الفنية» أم كلثوم (بعيدا عن النظريات القائلة إنه كان يعشقها حقيقة في صمت).
ربما قسا القصبجي على نفسه للغاية في ذلك اللحن، وربما كان تألقه الشديد سببا في عدم رضائه الكامل عما لحن بعدها (رغم تميزه أيضا).. لكن الفنان الكامن داخل صدره كان متمردا بدرجة لا ترضى عن المجد بديلا، بينما كان خجله الشديد وتواضعه يمنعانه من تسويق نفسه وإنقاذ ذاته لاحقا.
أحرق إبداع القصبجي قلبه، ولم يقنعه بأن يرضى بما هو أقل.. وحين أتى عليه وقت «شدة» يجبره على الرضا بالأقل، لم يواته هذا القليل وضن عليه.. فارتضى أن يقبع في الظل خلف أم كلثوم كعازف للعود فقط لمدة نحو 20 عاما، حتى مات خلال تدريبات الفرقة الموسيقية على لحن «الأطلال».
مأساة القصبجي ليست مجرد قصة للتاريخ، إنما هي جزء من الحاضر أيضا. بعد ثلاثة أعوام من المعاناة مع «عركة» الحياة في مصر، سقط كثير من أصدقائي ضحايا لهذه الأزمة.. أغلب هؤلاء غير «مؤدلجين»؛ ليسوا «فلولا» أو «إخوانا» أو تابعين لـ«العسكر».. فقط، هم بشر من «لحم ودم»، تضررت أعمالهم من الركود والكساد والتوتر الاجتماعي.
ليست المشكلة خاصة بأصدقائي فقط، بل أغلب المجتمع المصري يعيش في هذه الأزمة.. يعيش هؤلاء حاليا في مرحلة «استراحة المحارب».. خرجوا من معركة خاسرين، ويشحنون طاقتهم لخوض جولات أخرى. لكن أغلبهم طالت استراحتهم؛ بعضهم أشهر، وبعضهم جاوز العامين. لمح في كل منهم «قصبجي» صغير لا يرتضي أن يتنازل. من كان منهم مديرا أو خبيرا أو مستشارا أو صاحب شركة، يريد أن يبدأ بعمل جديد على المستوى ذاته، ولا يرتضي التنازل؛ فتحول شحن الطاقة لديهم إلى شحن «سالب»؛ كاد يقتل كل دوافعه للحياة.
بعض هؤلاء ينتظر أن تحنو عليه الدنيا وتهبه قيراط «الحظ» الموعود في الأسطورة، رغم أنه يمتلك مئات الأفدنة من «الشطارة» التي توشك أن تبور لأنه يكاد لا يفكر فيها. لكن المعلومة شبه المؤكدة؛ أن من روج «أسطورة قيراط الحظ» - غالبا - كان محتالا موهوبا، ولكنه كان يفتقر إلى المهارة في مجالات الحياة الأخرى.. فآثر أن يلهي غيره بانتظار «الوعد»؛ كي يختلي هو بحلاوة «الواقع» دون منافسة من أقرانه الحالمين الأكثر موهبة.