خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

عمر بن عبد العزيز في زهده

إذا كنت قد استشهدت بالمنصور في حرصه وعفوه، فما أجدر بي أن أستشهد بالخليفة عمر بن عبد العزيز في زهده وعدله وتقواه. وقد وردت عنه حكايات كثيرة في مثل ذلك، أعجبتني منها هذه النخبة، وجلها تشير إلى انصرافه عن الشعراء والحكماء والعلماء. ولكن كان منهم أبو المقدام رجاء بن حيوه بن جرول الكندي، أحد علماء الإسلام في أوائل القرن الثامن الميلادي. الظاهر أن الخليفة اختصه في كثير من شؤونه وقلما تركه ليفارق مجلسه. فروى عنه حكايات كثيرة.
لا أدل على مدى قربه منه من كثرة المبيت معه في بيته. هكذا كان الأمر يوماً فجعله يمكث معه ليلته. وبتقدم الوقت، أوشك السراج أن يخمد، فقام إليه أبو المقدام ليصلح أمره، غير أن الخليفة أوقفه عن ذلك وأقسم عليه أن يقعد ليقوم هو بإصلاحه. فقال: تقوم أنت يا أمير المؤمنين؟ فأجابه: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز!
وهذه حكاية تدل على مدى تواضعه. بيد أن أبا المقدام الكندي يروي حكاية أخرى تدل على زهده. وكان الخليفة قد كلفه شراء ثوب له بستة دراهم. وهو مبلغ يسير وشحيح حتى في ذلك الزمن. ولكن جليسه العالم لم يجد غير أن يذعن لصاحبه فتبضع بذلك الثوب وجاء به فجسه الخليفة وتحسسه ثم قال: «هو على ما أحب لولا أن فيه ليناً».
قال: فبكيت، فسأله: وما يبكيك؟ فأجابه: أتيتك وأنت أمير بثوب بستمائة درهم فجسسته، وقلت: هو على ما أحب لولا أن فيه ليناً!
وقد التفت الخليفة إليه وقال: يا رجاء لي نفس تواقة. وتاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها. وتاقت إلى الإمارة فوليتها وتاقت إلى الخلافة فأدركتها. وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها إن شاء الله عز وجل.
يمضي الراوية فيشير إشارة أخرى إلى زهد هذا الخليفة الورع فيقول: «قومت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو يخطب باثني عشر درهماً، وكانت قباء وعمامة وقميصاً وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة».
وقد تفرد عمر بن عبد العزيز عن معظم الخلفاء بسد بابه في وجه الشعراء والمداحين. ورويت عنه في ذلك أيضاً حكايات ظريفة وكثيرة حتى أن الشاعر الكبير، جرير، خرج يوماً من مجلسه وهو يتمتم ويقول: هذا رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وكان الخليفة قد استمع منه قصيدة طويلة كافأه عليها بمائة درهم لا غير، وهو يقول: «والله يا جرير ما عند عمر سوى مائة درهم. يا غلام، ادفعها له»!