د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

الحلول المنتجة للأزمات!

لنتفق حول معنى الحل: هل هو علاج لمشكلة ما أم أنّه طريقة في المعالجة الخاطئة ومصدر إنتاج للمشاكل؟
أظن أن التفكير في هذه المسألة مهم. فالحل هو حل لمشكلة. وإذا كان الحل الذي اخترناه سبباً في ظهور مشاكل، فذلك يعني بكل بساطة أنه ليس حلاً. بمعنى آخر، فإنه من المهم التريث في تقديم الحلول والتأكد من كونها فعلاً تمثل حلولاً. وما قد يبدو لنا في الوهلة الأولى حلاً قد يكون مفتاح أزمة أكثر تعقيداً، خاصة تلك الحلول التي نتسرع في تبنيها هرباً من واقع لم نعرف كيف نعالجه بشكل بنيوي.
ولعل رجال السياسة والنخب الحاكمة أكثر من أي أطراف أخرى مجبرة لتجنب الحلول المنتجة للأزمات والمشاكل، لأن موهبة رجال السياسة هي إيجاد الحلول وإشباع توقعات الشعوب وإلا فلا معنى لتولي الحكم.
نعم هو ذاك قدر كل من يرنو إلى السياسة ويمارسها: تقديم الحلول لواقع اقتصادي سياسي اجتماعي أفضل.
يدور الحديث الأبرز خلال هذه الأيام في تونس حول قانون المالية 2018 الذي شرع البرلمان في مناقشته. وهو حديث يمكن اختزاله في مواقف ثلاثة تتوزع حول الانتقاد والرفض والتهديد. ومن جهتها، تحاول الحكومة المقترحة لمشروع هذا القانون الدفاع عنه عن طريق خطاب التسويق لضرورة الإصلاحات الموجعة والدعوة إلى التحلي بالصبر والإرادة. أما بالنسبة إلى المنتقدين المعارضين لفصول قانون الميزانية القادمة فقد اعتبرت خطابهم شعوبياً يهدف إلى استمالة الشعب ويستبطن موقفاً سياسياً ضد الحكومة الراهنة.
باختصار يمكن تلخيص مضمون القانون المشار إليه في أنه حاول الإصغاء وتلبية الإصلاحات التي حددها صندوق النقد الدولي والتي على رأسها التخفيض من العجز في الميزانية من خلال إصلاح جبائي شامل. بمعنى آخر فإن الحل الذي تبنته الحكومة لحل مشكلة العجز التجاري هي الزيادات ومراجعة دعم المواد الأساسية والترفيع في الأداءات والضرائب. أما مشكلة الأجور في الوظيفة العمومية فقد اهتدت الحكومة في القانون الجديد إلى أكثر الحلول راحة: تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية.
طبعاً من الواضح أن الحكومة انخرطت فيما تم وصفه بالإصلاحات الموجعة بناء على ضغوطات حقيقية وواقع مالي متأزم، وهي بالتأكيد تدرك شدة ألم هذه التدابير وأنها ليست إصلاحات.
ولكن في الحقيقة من الصعب القبول أيضاً بتبني سياسة تقشفية منهكة لكاهل المواطن المنهك بطبيعته وفرض قوانين غير محتملة، وفي نفس الوقت الترويج لخطاب الأمل والإرادة وأن هناك مؤشرات انفراج.
لم يراعِ هذا القانون الجانب النفسي الاجتماعي ولا سياق دولة عرفت ثورة وينتظر شعبها الانفراج. كما أنه قانون لم تعبر فيه السلطة التنفيذية عن إبداع في ممارسة السياسة وابتكار الحلول؛ فنحن أمام حلول سهلة وقصيرة المدى ولا تحتاج إلى عبقرية سياسية أو خبراء في الاقتصاد.
لذلك فإن التركيز على الترفيع في الأداءات وإعلان سياسة التقشف وعقلنة التوريد للحد من نزيف العملة الصعبة ناهيك عن تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية... كلّها حلول أظهرت إهمال البعد السياسي المهم، وهو ما يفسر أن الانتقادات لم تكن من المعارضة فقط بل أيضاً من الحزب الحاكم الأول في البلاد أي حركة نداء تونس التي رأت في القانون المقترح تهديداً للسلم الاجتماعي.
أيضاً تضمن هذا القانون تناقضاً بين الخطاب السياسي والممارسة؛ فمن جهة نسجل ضغطاً على رجال الأعمال من خلال الأداءات والضرائب، ومن جهة أخرى يدعو الخطاب السياسي الرسمي رجال الأعمال إلى الاستثمار وتحريك عجلة الاقتصاد. لذلك كانت منظمة الأعراف مستاءة من القانون وقدمت تهديدات للحكومة بالانسحاب من وثيقة قرطاج. واتهم الاتحاد العام التونسي للشغل القانون بإضعاف الطبقة الوسطى.
إن مشكلة مشروع قانون المالية 2018 أنه اعتمد الحلول السهلة سياسياً والصعبة على رجال الأعمال والمهن والمؤلمة شعبياً، أي أنه ضغط على الجميع بقسوة وليس من السهل أن يحظى بمدافعين عنه غير الحكومة التي تقدمت به للمناقشة في البرلمان.
والمشكلة الأكبر أنه صادم للفئات التي كانت تتوقع الشغل ورد الاعتبار للمقدرة الشرائية.
فهو قانون لم يسوق رسائل أمل وتغافل عن كونه يستهدف شعباً فقد الصبر وصدق وعوداً انتخابية تعهدت بالحق في الكرامة المادية.
التناقض الثاني الذي يستبطنه هذا القانون هو أنه يضغط على ميزانية المواطن بشكل يدفع لانتعاش ظواهر الفساد، والحال أن الحكومة رفعت شعار مقاومة الفساد. فهل الفساد ترف تقبل عليه فئات من الشعب أم أنه نتاج ذرائع واقعية قاسية تجعل منه الحل تماماً كما يجد بعض الساسة الحل في الجباية وتجميد الانتداب؟
يبدو لي أن مشروع قانون مالية 2018 في تونس نوع من الانتحار السياسي البطيء قام على حلول لا تخلق الثقة ولا تنبت الأمل ولا تمرر رسالة ضمان مصالح الجميع.