فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

تحرير المجتمع من اختطاف الصحوة

كانت العقود الثلاثة الماضية عصيبة على السعوديين؛ الموجة الراديكالية التي عمّت العالم الإسلامي بعد الثورة الخمينية ألقت بظلالها الكئيب على تفاصيل الحياة، إذ بات الواقع ميداناً للانتقام المتبادل، امتلأت النفوس بالحسرات، والرغبة بالتوبة من المباحات، قُصفت البيوت ليلاً ونهاراً بالأشرطة والمطويّات، تخلص الناس حتى من صور ذكرياتهم، وإن سمع المرء مقطعاً من أغنية عابرة بالراديو فإن الوساوس كفيلة بهدّ كاهله. لقد كانت المباحات تنقض ظهر الإنسان، كل شيء حُرّم تقريباً، باستثناء ما يبيحه دعاة تسيّدوا المشهد، واختطفوا المجتمع، واكتسحوا المنابر واحتلوا الواقع بأكمله، وغدا الصالح من يزينونه هم، والطالح من يعادونه. لقد قُضي على الحياة تماماً، وقد كان لقلةٍ غرباء من المثقفين والكتاب أدوارهم المتحدية لأولئك وذلك من خلال الكتب والروايات والصحف، قادوا مقاومةً نصرُها مستحيلٌ أمام جيوش الكراهية وسدنة الحرام، حتى نالهم من التكفير والتضييق ما نالهم فما وهنوا وما استكانوا، حتى جاء الأثر السياسي التاريخي.
أثر بليغ يُروى عن الخليفتين عمر وعثمان: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، أثبت صدق معناه على مر التاريخ، إذ أقوى أساليب التغيير في تاريخ المجتمعات، أن يؤمن الحاكم بمشروعٍ لشعبه، ويبني نظماً وأسساً قانونية تحرس ذلك المشروع، وتجعله جزءاً من الواقع. قيّض الله الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ليضع حداً لذلك الاختطاف التاريخي للمجتمع السعودي. العقود الثلاثة الماضية لن نعيد تكرارها في السنين المقبلة، قالها الأمير في حواراتٍ عديدة، وكانت واضحة صارمة في حوار «نيوم»، إذ تعهد الأمير محمد بتدمير التطرف على الفور، لقد طُويت الصفحة، والآن على الرموز الظلامية، ودعاة الكراهية، وحرّاس الوسواس، وقادة الكآبة، أن يعتزلوا المشهد، وأن يلزموا بيوتهم، فالمرحلة ليست لهم، إلا إذا استطاعوا صوغ أفكارٍ أخرى جديدة، وصناعة تحولاتٍ فكرية، والدخول ضمن مراجعات تجعلهم ضمن «المجتمع الطبيعي» أو «الحياة الطبيعية» كما وصفها الأمير. إنها سُنة الحياة، فالإنسان لا يمرّ بالنهر مرتين، كما يقول هيراقليطس، الحياة صيرورة مستمرة وأبدية.
كلمة أخرى مهمة قالها تركي آل الشيخ، المستشار بالديوان الملكي ورئيس هيئة الرياضة السعودية، في المؤتمر الصحافي الذي أعلن من خلاله عن تنظيم دخول العائلات إلى الملاعب الرياضية، إذ أوضح أن: «الملك وولي العهد مثلما هم شديدون بإيقاف المحرمات، هم أيضاً لديهم الشدة للحفاظ على المباحات، وهذا الموضوع بات واضحاً». إذاً، يعود النهر مجدداً إلى الجريان، وينهدّ سد تعيس مَنَع المباحات وشوَّهها، وجعل الحرام قرين الطُّهر، والمباحات مظنّة الغفلة، و«الغفلة» مصطلح صحوي امتلأت به الأشرطة، وهي حالة من عدم الخوف والرهبة والرعب، الغفلة لديهم تعني السعي في مناكب الأرض، والتمتع برزق الله، إنهم يريدون الناس مجرد قطيع يعيش بالوحشة من دون أي استمتاع بالحياة الدنيا.
من أبرز أسباب تسيّد الحالة الصحوية، حركة جهيمان في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979. صحيح أنها ضُربت على مستوى الخليّة والتنظيم، لكن لم يكن هناك «اجتثاث» مباشر على النحو الذي قام به الملك عبد العزيز بمعركة السبلة في 30 مارس (آذار) 1929. الفرق في الأولى أنها لم تُجتَث من أصلها ولم يتم سحق أفكارهم بشكلٍ قوي، ذلك أن الظاهرة الراديكالية تعيد صنع نفسها كل ثلاثين سنة، ومن دون استعدادٍ سياسي لسحق الظاهرة مع جذرها فإن بعض أفكارها قد تنتشر، وبعض أتباعها قد يتسيدون، كما أن الخطأ الخطير أن أُعطيت حرية لأولئك الدعاة، وباستثناء أحداث عام 1994 حين تم القبض على دعاة التطرف وإيداعهم السجن، لم يكن هناك جهد رسمي حقيقي لتحرير الواقع من قبضة الصحوة.
أبرز سلاح انتصرت به الصحوة كان التضييق على المباحات، مع أنه الأصل في الدنيويات، ولا يحرّم شيء إلا بدليلٍ قاطع ناصع، ومعظم المحرمات التي يساط بها ظهر المجتمع هي من المباحات، والآية القرآنية صريحة: «قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق». إن الحرب على المباح كانت منظّمة عبر الكاسيتات والمطويات والخطب والمواعظ، وذلك من أجل استهداف المجتمع بضميره الواخز، حتى تعزز الوسواس، وباتت النجاة من عقاب الله لا يمكن أن تكون إلا عبر ذلك الداعية، والانصياع لتعاليم «الشيخ». الآن نعيش حالة مختلفة، تعود الأمور إلى نصابها، وكل القرارات التي اتخذتها السعودية هي من قبيل إتاحة المباح وتنظيمه، وهذه بداية الطريق للخروج من السياجات الصحوية الكارثية التي حبست أنفاس المجتمع.
زمن السنين الثلاثين المدمّرة التي عاشها المجتمع علينا اعتباره من التاريخ، لقد بدأت الخطّة التنموية الشاملة التي يتغير من خلالها المجتمع عبر الاقتصاد والرياضة والإعلام ومنصات الترفيه المتنوعة، فالترفيه حقّ للإنسان وليس ترفاً كما يعتقد بعض المعاتيه، إنه ليس زمن الصحوة، ولا زمن الإخوان، بل زمن التنمية والانتصار لدنيا الإنسان.