أنصح كل من يريد التفقه في مفاهيم المفاوضات والعلاقات الدولية، وبالضبط كما هي متداولة في أدبيات الجامعات ومراكز القرار في الولايات المتحدة، بقراءة كتاب دونالد نوشترلين الذي سماه «أميركا مرهقة بالالتزامات: المصالح الوطنية للولايات المتحدة في الثمانينات»؛ في هذا الكتاب يصف نوشترلين المصالح الوطنية بأنها «الاحتياجات والرغبات المتصورة لدولة مستقلة فيما يتعلق بالدول الأخرى المستقلة التي تشكل بيئتها الخارجية»؛ وطبيعة البيئة الاستراتيجية كما يصفها نفس الكتاب فيما يخص تطوير السياسة والاستراتيجية، توحي بتفكير أكثر شمولية؛ فهي «الحاجات والرغبات لدولة ذات سيادة فيما يتعلق بدول أخرى مستقلة، وبأطراف فاعلة غير حكومية، وبالمصادفات والظروف في بيئة استراتيجية ناشئة توصف بأنها الوضع النهائي المنشود»، وهذا التعريف الشامل يفصح عن دينامية البيئة الاستراتيجية التي هي عرضة لعدد من الفاعلين والمصادفات والتفاعلات، كما تتضمن مكونات خارجية وداخلية.
نوشترلين أشار إلى المصالح الجوهرية الأميركية وعدَّد أربعاً منها: الدفاع عن أرض الوطن، والرخاء الاقتصادي، والنظام العالمي المفضل ونشر القيم. الفائدة من تحديد هاته المصالح الأربع والإعلان عنها بدقة ووضوح هي أن تساعد وتفيد في صياغة السياسة والاستراتيجية. فالدقة هي سمة في غاية الأهمية عند صياغة السياسة والاستراتيجية الجيدتين؛ والدقة تزيل الضباب وتوضح الرؤية وتوفرها وتمكن من إزالة جدار الغبش الفكري غير المقبول في العلاقات الدولية والعلوم السياسية المقارنة.
وبالتوقف عند النظام العالمي المفضل هناك مسألة الفهم الدقيق لمجرياته ومآلاته، وكيفية الارتماء في مبانيه بنجاح والتربع على خوارزمياته، وهذا ما يجعل من مسألة نشر القيم التي تحدث عنها نوشترلين غير دقيقة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية والتي قبرها الرئيس الأميركي ترمب لصالح أولويات أخرى. فقد فهم الرئيس الأميركي من خلال سر نجاح تجربة خط الحرير الصينية، أن الدولة الصينية ليست بدولة ذات طابع «دعوي» تسعى إلى تصدير نموذجها التاريخي، كما فعلت وتفعل الدول الغربية كأميركا وفرنسا اللتين تسعيان إلى تصدير النموذج الغربي وتؤمنان بأنه لا يمكن تحقيق أي انفتاح سياسي أو تقدم مجتمعي دون المرور وامتلاك، ليس فقط نموذجهما الفكري والمجتمعي والثقافي، بل وأيضاً نموذجهما الاقتصادي والسياسي؛ لذا خلقت وكالات للتنمية ومنظمات للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة، وقيدت قروضها للدول النامية بالمحافظة على المبادئ الإنسانية العالمية والانفتاح السياسي، وأنشئت مراكز بحثية بتمويلات رسمية تنقط الدول في مجال احترامها أو عدم احترامها للائحة الحقوق الإنسانية العالمية، وتصنفها من دول ديمقراطية إلى دول شبه ديمقراطية أو سلطوية. هذا الكلام لم يعد يجدي ولا فائدة منه في العقيدة الترمبية الحالية؛ فالصين مثلاً ما دامت أراضيها ومصالحها السيادية لا تُمس بسوء، فهي تتبنى سياسة خارجية ناجحة وناجعة في البيئة الاستراتيجية الدولية الحالية لأنها قائمة على عدم التدخل، والعمل بهدوء وعدم إثارة المشاكل والتصريحات والبلاغات في مجالات سيادية للدول الأخرى، ولا تهتم البتة بالتوجه «الدعوي الغربي»، ولا تكترث بتنقيطات وتصنيفات مراكز الأبحاث والدول لها أو لشركائها، وتروج لمبدأ مفاده أن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني ضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية «صديق - عدو»، وإنما في إطار «رابح - رابح». ونفهم من هذا الكلام لماذا قام الرئيس الأميركي بأخذ قرار إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وخروجه من بعض المنظمات الدولية.
وبالتوقف عند النظام العالمي المفضل هناك مسألة المفاوضات الدولية متعددة الجوانب: الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية والمالية والصناعية، والتي يجيد الرئيس الأميركي في خلقها وجعل الخصوم يفقدون البوصلة أو يخضعون لإملاءاته بطريقة كلية؛ فالمفاوضات كما ندرسها لطلبتنا في الجامعة ليست بعلم له قواعد رياضية محددة تساعد المفاوض والدبلوماسي على السواء للوصول إلى النتائج المبتغاة، وإنما هي فن يعتمد على التجربة وإمكانية قراءة المستقبل والتأثير عليه؛ كما يستلزم إلماماً كبيراً بالقضية ودراسة الخيارات والبدائل بطريقة متمكنة على شاكلة الطب الباطني، وهو أحد فروع الطب الذي يختص بتشخيص وعلاج جميع الأمراض التي تصيب الأعضاء؛ فالمفاوضات الدولية القائمة الآن، التي تسيرها الولايات المتحدة، سواء فيما يتعلق بالأزمة الروسية - الأوكرانية أو بالجزر التي يريد شراءها أو أخذها أو بالرسومات الجمركية، هي وغيرها متعلقة بعقيدة ترمبية جديدة تنبئك بنقطة البدء ولا تخبرك بنقطة الوصول ولا يمكنك أن تتكهن بها لأنك تكون قد دخلت في عالم تفاوضي موسوم بعدم اليقين؛ والمفاوض هنا يجب أن يكون له نسق فكري متقد وعلم ودراية كافية تجعله يستنبط أهم مقومات المرحلة اللايقينية في إطار هاته المفاوضات، ليصل إلى الأهداف المرجوة ويحقق الغايات المطلوبة؛ وهذا ما يكون صعباً عندما يكون أحد أطراف المفاوضات الدولية هاته هي أميركا الحالية.