خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

أنا وجدتي وأبو ساسون

كثيراً ما يسألني الناس عن روايتي «حكايات من بغداد القديمة - أنا وجدتي»، وعما ورد فيها من طرائف، وأي منها كان حقيقة واقعة، وليس من نسج الخيال. لا أريد أن أفسد على أحد متعة قراءة هذه الرواية ببيان ذلك. فما أنا من المفسدين على الأرض، ولا على الورق. بيد أنني أستطيع أن أروي لهم الحكاية التالية عن جدتي، رحمها الله، وأجزم بأنها كانت حقيقة واقعة شهدتها وأنا طفل صغير اعتدت على مصاحبة جدتي ككل الأطفال الصغار.
أدمنت جدتي على التدخين بعد مقتل زوجها في الحرب العظمى؛ لم يبقَ لها ما تستمتع به غير شيئين: أداء الصلاة، وتدخين السجائر التي كانت تلفها بيدها من التبغ الذي كانت تبتاعه من التتنجي اليهودي أبو ساسون في سوق الميدان. كانت تبعث بي إلى دكانه لآتيها بالتبغ. كنت أذهب وأقول له: «عمي أبو ساسون، بيبيتي خلص تتنها». يسألني عن صحتها، ويهديني تحياته لها، ثم يزن لي كمية من التبغ القوي، يضعها في كيس ويسلمها لي بعد أن يسجل ذلك في دفتره.
كانت تشتري منه التبغ بالتسليف. كنت أذهب معها في آخر الشهر لتتسلم معاشها التقاعدي كأرملة حرب. تعرج في طريقها وتجلس قليلاً في دكانه، يتحادثان عن أيام زمان، يوم كان كل إنسان يعرف مكانه في المجتمع. كان هذا الحديث هو كل حياتها الاجتماعية. وبعد أن تنهي حديثها بالشتائم على العهد المدني، تسأله عن ديونها. ينظر في الدفتر ويقول لها كم، وهي تسدد له المبلغ. كانت تقول: «اليهود ما يأكلون حق أحد». كان ذلك في الثلاثينات، وقبل أن تنقلب الأمور في عالمنا.
مضت جدتي أخيراً، واستولى عليها قلق ممضٍ، ليس خوفاً من الموت، فقد كانت مؤمنة بلقاء ربها، وإنما من موضوع آخر عزّ علينا فهمه. كما سمح بمرضها الرحمن أشفاها الرحمن. وكان أول ما فعلته بعد شفائها أن قصدت ديوان التقاعد، وتسلمت معاشها، وعرجت كعادتها على دكان أبو ساسون. وهناك جلست في الزاوية نفسها. أعطاها الوسادة لتجلس عليها وتريح عظامها. التقطت أنفاسها ثم احتقنت عيناها بالدموع. قالت بصوت متهدج: «يا أبو ساسون، وأنا على فراش الموت بين الموت والحياة، فكرت باللي تطلبني. خفت أموت وبذمتي فلوس التتن. قلت لروحي كيف راح أواجه ربي بيوم الحساب وأنا مديونة لواحد يهودي، وتوقف أمامي وتطالبني بالحساب. وهذي دنيا الآخرة وما عندي أي فلوس حتى أسدد لك. وأنا من ملة محمد وكل هالأنبياء، عيسى وموسى ونبينا محمد، واقفين يشوفوني مديونة لواحد يهودي». ابتسم أبو ساسون، دفع طربوشه الأحمر إلى الخلف ومسك عباءتها بيده وخاطبها قائلاً: «يا حاجة، ونبيك ونبينا موسى وهو شاهد عليّ، إن شاء الله عمرك طويل، وإذا الله أخذ أمانته وافترقنا، فأنت محللة وموهوبة من كل فلوس التتن». ابتسمت جدتي وطابت نفسها. وقدم لها سيجارة من سجائره ودخنتها شاكرة.