سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

«كذب بلا حدود»

«حرية الصحافة لم تكن مهددة قط على النحو الذي هي عليه اليوم». فمن أصل 180 دولة أحصتها منظمة «مراسلون بلا حدود»، نصفها تقريباً الوضع فيها «خطير للغاية»، كما وصف التقرير. التراجع عام ويكاد يكون شاملاً باستثناء الدول الاسكندنافية وأستراليا.
حتى أميركا تهبط في سلم الحريات، وثمة من يعتبر أن الصحافة هناك لم تعد قادرة على لعب الدور المحوري في تحريك الرأي العام، والتأثير الساحق في الانتخابات واللحظات المفصلية، كما كانت في ستينات وسبعينات القرن الماضي، أو كما فعلت «سي إن إن»، عندما هزّت العالم وهي تنقل مباشرة بدء الحرب الأميركية على العراق.
نصف الأميركيين لا يصدقون الأخبار الواردة في الإعلام حول الرئيس دونالد ترمب مثلاً، وترتفع النسبة بين الناخبين الجمهوريين لتصل إلى 76 في المائة، حسب استطلاع جديد. وهذا مثير وجديد. فإذا كان حال أميركا متردٍّ إلى هذا الحد، فأي ثقة بين المواطن والإعلام في بلدان مثل إيران أو حتى كوريا الشمالية؟
تصنّف الصين على أنها أكبر سوق إعلامية في العالم أجمع، بفضل 4 آلاف محطة تلفزيونية وألفي صحيفة، و10 آلاف مجلة، وألفين وستمائة إذاعة، وعدد ضخم من مستخدمي الإنترنت لا مثيل له في أي دولة أخرى. لكن السلطة السياسية، رغم الرغبة في الانفتاح، لا تزال تحكم قبضتها على طبيعة المحتوى. وتعوّل الصين على هذه الماكينة الضخمة التي تنطق بمختلف اللغات، للترويج لصورتها، وهي تغزو العالم، وتخاطب الداخل.
ليست منصفة المقارنة بين أميركا والصين حين يتعلق الأمر بالإعلام، بطبيعة الحال. لكن عقد الثقة ثلاثي الأضلاع بين المتلقي والصحافي والمؤسسة الإعلامية، الذي عمّر طويلاً، وقامت على مداميكه أسطورة الرأي الحر، يتهاوى. وهو ما يضرب السلطة الرابعة ويهددها في صميم وجودها، في أكثر الدول ديمقراطية.
المشكلة لم تبدأ مع انتشار الإنترنت، ولا مع الثورة التكنولوجية والمواقع الاجتماعية التي جاءت بالضربة القاضية. في الأصل اهتزت الصحف لحظة اضطرت إلى تقاسم الإعلانات مع الراديو. ثم جاء التلفزيون لينتزع حصة أكبر. لهذا السبب، عام 67 شهدت فرنسا احتجاجات مدوية، واتُّهم الجنرال ديغول بالتآمر على الصحافة لإضعافها والنيل منها، والتعاطف مع الوافد الجديد. ومع تعدد الوسائط وتوزع الإعلانات عليها، شحّت الأموال، وانخفضت المردودات، وارتهنت الصحافة لمن يدفع.
ترفع الباحثة الفرنسية جوليا كاجيه الصوت عالياً، محذرةً من خطورة ترك الإعلام يرتع في أزمته الاقتصادية الحالية، ليسقط نهائياً فريسة في أيدي أرباب المال، أو أهل السلطة، وفي الحالتين فإن الضحية الكبرى هي «الحقيقة». وفي كتابها «المعلومات بأي ثمن» الذي أسهم فيه أكثر من باحث نقرأ أنْ لا حلّ أمام الجماهير العريضة لصيانة حرية كتّابها وصحافييها، ومؤسساتها الإعلامية سوى أن تسهم في التمويل، عبر الاشتراكات الإنترنتية والورقية، وأن يتم إلزام الحكومات والشركات بجزء من الدعم. ومن الأسطر التي يجب أن يوضع تحتها أكثر من خط في هذا الكتاب، هو أن «ما يقارب ثلثي المعلومات الموجودة على الشبكة العنكبوتية، مصدرها الصحف بمعناها الكلاسيكي، وأن عملية القص واللصق التي صارت تسهل إعادة نشر المعلومات بكبسة زرّ تتيح لغير المحترفين السطو على جهد أصحاب المهنة، وطائل الأموال التي تتكلفها مؤسساتهم بالمجان. وهكذا يتساوى من يجازف بروحه لتغطية معارك طاحنة، ومن يدفع تكاليف السفر والإقامة والتأمين، وذاك الذي يعيد صياغة الجمل بطريقة أكثر رداءة».
اللعبة لا تزال في أولها، التنظيم لا بد منه، حفظ عرق جبين الكادحين من الصحافيين آتٍ، بعد أن بلغت الفوضى حدوداً غير مسبوقة. إلى ذلك الوقت، هناك صحف تُغلق ومحطات تلفزيونية تفلس، وما يقارب 70 في المائة من الجمهور العريض في أميركا وأكثر منهم في العالم العربي يذهبون إلى منصتي «فيسبوك» و«تويتر» للاطلاع على الأخبار. لتصبح بذلك وسائط غير صحافية هي المصدر الأول لمعلومات، لم يتعب في تنقيحها ولا البحث عنها مارك زوكربيرغ وأصدقاؤه المبرمجون.
ليس المغنّي الأميركي الراحل جيم موريسون وحده من عرف أن من «يسيطر على الإعلام يسيطر على الأرواح». الخطر يتعاظم لأن السلطات السياسية مع تصاعد إحساسها بأهمية الإعلام، تتزايد شهوتها للاستيلاء عليه والتحكم به، وتسخيره في حياكة علاقاتها الدولية، أو تأثيرها في دول أخرى. ولا يزال الكلام عن الحسابات الوهمية على وسائل التواصل والإعلانات التي اشترتها روسيا للتدخل في مسار الانتخابات الأميركية قضية حية، وتشغل الرأي العام الأميركي. ومن يرى كيف أن المواقع الروسية، باتت تفرض أخبارها على الإعلام العالمي، يدرك كيف أن ما تسمى «القوة الناعمة» تتناسب طرداً مع القبضة السياسية.
الاهتمام لدى الباحثين في العمق، ليس ما إذا كانت المواقع الإلكترونية ستقضي على الصحف الورقية، أو تتعايش معها، وما إذا كان التلفزيون يحيا أيامه الأخيرة، أمام مواقع بث إنترنتية مثل «نيتفليكس» وغيرها، فهذا متروك لظروفه. السؤال الحقيقي هو: من سيسيطر على المعلومات؟ ومن سيتحكم في قولبة أفكار الجماهير؟ وهل ستُترك هذه المهمة الخطيرة لمن يملك الثمن؟ وبما أن كل الوسائط صالحة لممارسة التلاعب، من الصحيفة الورقية مروراً بالإعلانات والوثائقيات إلى الأفلام الطويلة، فقبل أن تحسم معركة الصحافة، فإن العين على السينما التي يقال إن مفعولها في الأرواح «يتغلغل عميقاً ويبقى مديداً». ويبدو أن اليابان استثمرت كثيراً في هوليوود ولم تفلح. وما هو معلوم اليوم، أن الصين بدأت بضخ ملياراتها في الإنتاجات السينمائية الأميركية، وهو ما يؤثر جدياً في اختيار الموضوعات، وإدارة الأحداث، وإظهار الدور الصيني، كما تريده سلطات بلاد التنانين.
فمَن يشتري مَن؟ ولأي غاية؟ تلك هي المعضلة التي تذهب بنا، في مقامرة تجاوزت الصحافة ومتاعبها المتواضعة، إلى وسائط متشعبة، يمارَس فيها كذبٌ تجاوز كل حدود.