نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

إسرائيل تستبق مبادرة ترمب

كلما طالت مدة التحضير الموعودة، لا تجد إسرائيل عوائق تذكر في مواصلة تأسيس بنية تحتية وفوقية، لسيطرة طويلة الأمد على الضفة والقدس، وهذا ما يهمها بشكل أساسي.
المؤشرات على ذلك قوية ودامغة، ليس فقط على صعيد تواصل البناء الاستيطاني، في جميع أنحاء الضفة وما حولها، وإنما من خلال تخفيض أسقف أي كيان فلسطيني قادم سواء حمل اسم «دولة مستقلة» أو «حكم ذاتي موسع».
في ما مضى؛ أي في زمن الانتفاضة المسلحة الثانية، كانت المهمة الإسرائيلية العاجلة والملحة، تتركز في تجريد الضفة الغربية من السلاح، ومنذ ذلك الوقت وإلى أيامنا هذه والعملية متواصلة، حتى بلغت ملاحقة المقصات وسكاكين المطابخ.
وفي زمن ترمب، دخل الإسرائيليون في تعاطيهم مع أوضاع الضفة إلى مرحلة جديدة قوامها تحجيم دور السلطة الفلسطينية لينحصر في إطار الخدمات، وباقي الأمور تحت السيطرة الإسرائيلية الموضوعية. وفي سبيل تحقيق ذلك، تضاعفت مهام الإدارة المدنية التي يقودها الجنرال يؤاف موردخاي، الذي يمكن وصفه بـ«الحاكم الفعلي للضفة الغربية» وما عليها من فلسطينيين ومستوطنين، وذلك من خلال فتح قنوات اتصال مباشرة تتجاوز السلطة والاتفاقيات والتفاهمات، وتصل إلى حد تقديم خدمات أساسية وثانوية، مع تشجيع المواطنين على استخدام هذه القنوات، فهي أسهل وأضمن من القنوات المتفق عليها مع السلطة الفلسطينية.
كما وسّعت إسرائيل مجالات تدخلها في الحياة الفلسطينية، ومنحت نفسها حق ملاحقة من يتعاطون مع المواقع الإلكترونية، وشبكات التواصل الاجتماعي، ومعاقبة من يكتبون ما لا ترضى عنه إسرائيل، والتهمة الجاهزة هي «التحريض» الأشد من القتل.
وتحت هذا البند الفضفاض، دخلت قوة عسكرية إسرائيلية إلى ثلاث مدن فلسطينية رئيسية، هي رام الله والخليل ونابلس، واقتحمت مراكز بث فضائي تستأجر خدماتها، فصادرت ما صادرت، وأغلقت المنشآت ووضعت على أبوابها قرارات وأوامر تحذر من تعاون الجمهور مع «المحرضين»، وهددت بعقوبات صارمة على من يقترب من هذه المنشآت، وبقيت الأوراق محلها، ومطلوب من جانب إسرائيل أن تبقى الأبواب مغلقة لمدة ستة أشهر.
السلطة الإسرائيلية المحتلة تمارس، وبمنهجية مدروسة، نوعاً من التصفية المعنوية لهيبة السلطة وما تبقى من رهانات شعبية عليها؛ بل وولاء لها، وما ترمي إليه إسرائيل من هذه السياسة التي تمارس بدأب وفظاظة، هو عزل المبادرة الأميركية وتفريغها سلفاً من محتواها، التي قد تمنح الفلسطينيين أكثر مما تسمح به إسرائيل، فالأمر الواقع الذي يبنى منذ احتلال عام 1967، وإلى أن تعلن فيه تسوية سياسية ترعاها الولايات المتحدة ومعها أطراف توافق عليها وتضمن تطبيقها، هو أن المعادلة الإسرائيلية في التعامل مع التطورات، والمبادرات والاتفاقات، تقوم على أساس أن ما تتغاضى عنه في النصوص تضمن الحصول عليه في التطبيق... فعلت ذلك مع «اتفاقات أوسلو» و«خطة خريطة الطريق»، وها هي تمضي قدماً لفعل ذلك مع مبادرة ترمب المتوقعة.
هذا ما تخطط له إسرائيل وما تنفذه على الأرض، وفي داخل المؤسسة الإسرائيلية الأمنية والبرلمانية والسياسية، قوى جدية لا ترى في هذه السياسة علاجاً ناجعاً لما تعانيه إسرائيل في علاقاتها مع الجوار الفلسطيني ومحيطه العربي والإسلامي، فالسيطرة العسكرية والاقتصادية والأمنية، إن استمرت تحت صيغ تجميلية كالتي تصمم وتنفذ الآن، فمن يضمن لإسرائيل عدم حدوث انتفاضة جديدة وتحديات جديدة تهز أمنها وسيطرتها على مستقبل الفلسطينيين، بعد أن فشلت في السيطرة على حاضرهم. ويسوّق أصحاب هذا الرأي أمثلة على وهم السيطرة وكيف تبدد حين ظنت إسرائيل، وذلك في السبعينات، أن الفلسطينيين ارتضوا بالاحتلال مصيراً واقتنعوا بترتيب أمورهم الحياتية في ظله، فكانت النتيجة أن تقوض هذا الاعتقاد واستؤنف الصراع بأعنف مما كان... وما حدث في الماضي لا يوجد ما يمنع حدوثه في المستقبل.
ويقترح هؤلاء، ومن ضمنهم أفضل المفكرين في إسرائيل، أن يعالج الموضوع الفلسطيني بصورة مختلفة تماماً؛ بما في ذلك قضيتا القدس واللاجئين، اللتان تعدّ إسرائيل مجرد الحديث عنهما واحداً من أخطر وأرسخ المحرمات العقائدية والسياسية.
قد يضع ترمب هذا التحليل في اعتباره وهو يقدم على مجازفة صفقة القرن، ولكن ما دام في إسرائيل يمين ينمو ويسار ينحسر ومثقفون معزولون، فستظل دوامة الصراع مستمرة وناشطة، إلا إذا حدث شيء أقرب إلى المعجزة؛ وهو انحسار اليمين في إسرائيل، وولادة مؤسسة سياسية موضوعية تدرس إخفاقات الماضي وتتفاداها. وحين أقول إن هذا أقرب إلى المعجزة، فلننظر إلى خطاب رئيس الدولة العبرية في الكنيست وخطابي رئيس الوزراء ورئيس المعارضة، فالثلاثة يجمعون على أمر واحد؛ بأن لا أمل في عقلانية ينتهجها صانع القرار.