سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

ماذا نفعل بمليار شبح؟

جاءت «الأمم المتحدة» متأخرة عقوداً، بعد صرخة محمود درويش المدويّة في وجه المغتصبين: «فلتسقطوا عني جواز السفر». ولم يستفق «البنك الدولي» إلا أخيراً، لينبه إلى خطورة أن يعيش بشري من دون أوراق ثبوتية، وكأنه مجرد شبح يمر في هذه الفانية دون أن يترك اسماً أو أثراً. والفرق بين الأديب والبنك لا يحتاج شرحاً؛ أحدهما يستفتي وجدانه، والآخر يحسبها بالأرقام والبيانات ومعدلات الفائدة. وجاءت مأساة الروهينغا، وتشريدهم بعشرات الآلاف، واشتراط أوراق ثبوتية لإعادتهم من أماكن نزوحهم إلى ميانمار، وهم الذين جردوا من جنسياتهم منذ عقود، ليتأكد العالم، لمرة إضافية، أن من لا هوية له لا كرامة له، ويسهل إذلاله.
ولا جديد في أمر «مكتومي القيد»، كما يسمون في لبنان، أو «البدون»، ولهم في كل أرض نعت، سوى أن إحصاء أطلقه البنك الدولي في اجتماعه الأخير يشير إلى أن واحداً من كل سبعة أشخاص في العالم يعيش بلا أوراق رسمية تثبت هويته. وبما أن الهيئات الأممية حين تستيقظ على كارثة تقدمها وكأنها ولدت للتو، بدأت الحملات، وبينها واحدة لتحديد الهويات بيومترياً، مع التغني بقدرة التكنولوجيا على حلّ ما عجزت عنه الدول. ومع أن كشف بصمة قزحية العين، أو الأصابع، يمكنها تأكيد صلة القرابة بين الأشخاص، فإنها لن تجبر ميانمار على إعادة مواطن ترفضه، كما أنها لن تمنح الفلسطينيين حق العودة إلى بيوتهم التي طردوا منها.
ما تسعى إليه الأمم المتحدة، وسوف تصعّد حملاتها من أجله، له وجه خطير، فهي تريد أن تحدّ من توسع الظاهرة، مع تصاعد سيل اللاجئين، بإلزام الدول المعنية منح جنسيتها لكل طفل يولد على أرضها بلا هوية، وأن يصبح للأم حق منح جنسيتها لابنها، مما سيخفف من الأعداد بشكل كبير. وهو ما قد يكون صالحاً في ألمانيا أو السويد والنمسا، لكنه ساذج في مناطق قبلية كغرب ووسط أفريقيا، وأخرى يخضع كل قرار فيها لحسابات الطوائف والعائلات، كما سوريا أو لبنان والعراق.
وإن كان التركيز لا يزال خارج المنطقة العربية، والحديث عن ساحل العاج وتايلاند وبرمانيا، فإن السبعة ملايين لاجئ سوري هم في صلب المعادلة، كما توضح التقارير. ورقم المليار شخص من دون هوية الذي فجر المفاجأة، مع ضخامته، لا يحتسب أعداداً غفيرة تتزايد يومياً، بسبب الحروب والنكايات السياسية والتعقيدات الإدارية. ولا نزال نذكر الـ300 ألف كردي الذين جنسوا في سوريا بعد بدء الثورة، وكان النظام يضن عليهم منذ إحصاء 1962 بأدنى حقوقهم. لكن مقابل هؤلاء، يتنامى كالفطر عدد السوريين الذين صاروا خارج القيود الرسمية، في كل دول الجوار. فسبعون في المائة من الأطفال السوريين الذين ولدوا في لبنان تعذر تسجيلهم، إما لأنهم لوالد بلا أوراق، أو خوفاً من مراجعة سفارة بلادهم، أو لإهمال، أو لضيق ذات اليد. أكثر من 42 ألف طفل سوري في لبنان وحده؛ الأعداد يصعب حصرها. العراقيون ليسوا أفضل حالاً، مئات الآلاف من الأطفال ولدوا في الموصل خلال فترة «داعش»، وبقوا خارج قيود الدولة.
هناك ما هو أسوأ من أن تكون لاجئاً، وهو أن تكون «لا شيء». هؤلاء يطلق عليهم اسم «اللامرئيون». كل عشر دقائق يولد طفل «شبح». أوروبا تسعى لإنهاء حالة الـ«من دون جنسية»، وقوانينها كما أنظمتها السياسية تسعفها في ذلك. الأمم المتحدة تريد حلولاً شاملة ببلوغ عام 2024. يبدو الأمر طوباوياً، ما دامت الصراعات تمزّق الخرائط، وتفتت الأسر، وتجبر المزيد من البؤساء على إحراق جوازات سفرهم ونكران هويتهم.
يفكر البنك الدولي إنمائياً (هذه وظيفته)، ويرى أن ليس بوسع البشرية أن تتقدم اقتصادياً، ما دام سُبع أهل المعمورة غير معترف بهم قانونياً. هؤلاء من دون حق في العمل، أو الاستشفاء، أو فتح حساب بنكي، أو حتى التنقل، أو تلقي مساعدة إغاثية؛ طفل بلا هوية، لا يذهب إلى المدرسة، وحين يخفق قلبه شاباً لن يجد من يجازف ويقبل به زوجاً وبأولادٍ لا هوية تظللهم.
حملات ترويجية، جمع تبرعات لتمويل الهوية البيومترية، توقيع عرائض، الهيئات الأممية تتحرك لتعالج النتائج بأدوية مسكنة. هكذا يفعل الأطباء مع مرض «ألزهايمر» الذي لا يعرفون له سبباً، ولا شفاء. «مكتومو القيد» بلا سجلات توثق سلالاتهم، وبلا ذاكرة جينية أو شجرة عائلة بالنسبة لدولهم. فحص الـ«دي إن إيه» ليس حلاً. هذا الكون الآيل إلى خراب، بسبب خطط سياسية حمقاء لا ترى أبعد من أرنبة أنفها، وتكيل زيتاً كثيراً على نار متوقدة أصلاً، ذاهب إلى فبركة المزيد من الأشباح.
في المنطقة العربية، وبسبب إحصاءات ما بعد سايكس - بيكو، التي أبقت خلفها شعباً من غير المسجلين، موزعين من البحر إلى البحر، كانت الأزمة كبيرة أصلاً. بعد احتلال فلسطين، وتشريد من أصبحوا ملايين بنصف هوية، أو من دون، غار الجرح ونزف. ومع اندلاع الثورات العربية، وتحول الهويات إلى تفصيل لحظة الهروب، ولعبة بيد الأنظمة لإخضاع مواطنين لا حيلة لهم، أصبح الجسد المفتوح مرتعاً تتآكله الجراثيم. وبما أن الصراع بين العرب صار أسوأ كثيراً من نزاعات قبائل جنوب السودان، وما يدور في الأدغال الأفريقية، فإن الكارثة إلى تصاعد.
الدول العربية التي تزن عدد مواطنيها بميزان الذهب، كيف سترجع اللاجئين بلا أوراق إلى بلدانهم الأصل، وتستعيد توازنها الديموغرافي؟ كيف ستتعامل مع الذين حرمتهم جنسيتها من مواطنيها منذ عشرات السنين لأسباب منها ديني أو سياسي أو حتى عرقي؟ كيف ستجابه دولنا الهشة ضغوط الدول الكبرى والأمم المتحدة التي تريد هوية لكل مقيم بأي ثمن؟ هو مطلب إنساني محق ونبيل، لكنه قد يخفي وراءه غابة من النيات القذرة.
فإنصاف المظلومين أمر، واستغلالهم لفرض اختلالات مزلزلة في فترات حرجة ومفصلية هو أمر مختلف غاية الاختلاف.