د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

الاستفتاء الذي ما كان له أن يحدث!

لم تفاجئني نتيجة الاستفتاء على انفصال، وليس استقلال، إقليم الحكم الذاتي الكردي؛ ولا أظن أن ذلك فاجأ أحداً آخر، فالغالب في هذه النوعية من الاستفتاءات أنها تجري وسط حالة نفسية وعاطفية غلابة وكاسحة، وعندما يكون الحكم فاقداً للشرعية القانونية، ويقوم على القبلية الاجتماعية، فإن نزعته على الحشد والتعبئة الشعوبية واستدعاء التاريخ بآلامه الكبرى يؤدي عادة إلى هذه النتائج. وسط حالة الغليان المعتادة في مثل هذه الحالات فإنه لا أحد يفكر في الحقيقة التي جعلت التاريخ الكردي يختلط مع التاريخ العربي كما لم يحدث في حالات أخرى بآلامه وهو كثير، وفرحه وهو قليل، وفي الحالتين كانت المشاعر والمصالح مشتركة. الواقعة لم تنتظر وقتا طويلا مع تقلص دولة «داعش» الإرهابية، وأرادت القيادة الكردية أن تحصد وفورا ثمن مشاركتها في الحرب، ولكنها في الواقع لم تتفطن إلى أن خطوتها الجديدة لا تفتح الباب لصراع جديد، وآلام جديدة، فقط، وإنما تضعف من الواقع الاستراتيجي الكردي والعراقي في عمومه، وتفتح الباب من جديد لزرقاوي جديد، أو «داعش» آخر. ودائما فإن فتح باب للصراع سهل، ولكن إغلاق الباب يأخذ آجالا طويلة، خاصة أن نبوءة تقسيم العراق بدأت منذ الغزو الأميركي، وربما قبلها منذ حرب تحرير الكويت، ولكن النبوءات أيضا شملت أن دولة كردية مستقلة ذات حدود جغرافية مغلقة يضع الشعب الكردي في حالة دائمة الألم، لأن كل الدول المجاورة ليست على استعداد لتحمل مواجهة حركات انفصالية أخرى.
قرار رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بالتعامل مع الانفصال الكردي باتباع الطريق الدستوري فيه الكثير من الحكمة، وحماية الأكراد في جميع أنحاء العراق هو إعلان الدولة العراقية كدولة موحدة حقيقية. ولكن العراق الذي أوقعته الجغرافيا والتاريخ وسط رمال كثيرة متحركة يحتاج العون أولا لدعم موقفه القانوني؛ وثانيا لإعطاء الأكراد الفرصة للنزول من على الشجرة التي أخذتهم إليها قيادة طموحة. حتى الآن لا يوجد في العالم من يؤيد قيام دولة كردية مستقلة سوى إسرائيل التي أظنها ترتكب خطأ فاحشاً في هذا التأييد، في لحظة بدت فيها فرص السلام مع العرب أقرب من أي وقت مضى. الصورة التي تظهر لإسرائيل الآن هي الصورة التي تصورها بها العرب على مدى تاريخ الصراع معها كقوة غاشمة تسعى إلى تفتيت الدول العربية من أجل الهيمنة عليها. والعجيب أن الدولة العبرية حاولت ذلك مع لبنان من قبل، وكانت النتيجة أنها تسببت في تصاعد التهديد عليها وليس تقليصه.
«نيويورك تايمز» طالبت القيادة الأميركية بتأييد الانفصال الكردي، لأنها تعتقد أن الدولة الكردية الوليدة سوف تكون ديمقراطية (مضى أكثر من عامين على وجود القيادة الكردية في الحكم دون أساس شرعي لا من قانون ولا دستور)، وأيضا تقدمية.
ولكن الصحيفة لم يهمها كثيراً الديمقراطية العراقية التي جعلت رئيس الدولة كرديا طوال الوقت. رد الفعل الإيراني والتركي حتى وقت كتابة هذه السطور هو الضغط الاقتصادي واللوجيستي على الإقليم لعله يتراجع؛ ولكن ارتفاع درجة التأييد الغربي للانفصال إذا حدثت سوف يجعل التدخل العسكري حتمياً بينما الحرب ضد الإرهاب والتطرف لم تنتهِ بعد.
الآن يحتاج العراق من العرب وقفة، بعضها يؤيده بلا تحفظ في رفض الاعتراف بالانفصال الكردي من خلال قرارات تصدرها الدول العربية فرادى، والجامعة العربية جماعة، اعتمادا على الدستور العراقي الحالي، وعلى موقف دولي يشدد دوما على أنه في الصراعات والخلافات المعقدة فإنه لا يمكن لطرف أن يتصرف من جانب واحد. وإذا كان الأكراد يريدون «حق تقرير المصير» حقا، فإن ذلك الحق لا بد أن يعطى إلى كافة الجماعات العرقية والإثنية الأخرى داخل الإقليم الكردي من عرب وتركمان وغيرهم من أعراق ومذاهب. مثل ذلك سوف يفتح أبواب جهنم التي جعلت نتائج التقسيم - كما هو الحال في جنوب السودان - سلسلة من الحروب الأهلية، والصراعات الإقليمية، التي يدفع ثمنها الوطن الأم، والإقليم المنفصل. ولكن جزءا من العون العربي أيضا لا يكون فقط بالتأييد السياسي والدبلوماسي، وإنما أيضا في نظرة فاحصة على الأمن الإقليمي كله.
لقد سبق في هذا المكان الدعوة أكثر من مرة إلى ضرورة السعي لإقامة أمن إقليمي يكفل حل كل المعضلات والأوجاع التاريخية التي جاءت محاولة الانفصال الكردية أول الأثمان الموجعة لها. هذا الأمن الإقليمي يبدأ أولا بميثاق لا بد منه يبدأ بالسلامة الإقليمية للدول القائمة في المنطقة بالفعل والتي استقلت واحتلت مكانتها بين الأمم منذ عقود طويلة. الاعتراف بوحدة الدولة وسلامتها الإقليمية أي حدودها الدولية يتطلب ثانيا الاعتراف بحقوق الأقليات وفق المواثيق الدولية والحقائق الجغرافية في الدول الحديثة التي تتيح للجماعات المختلفة حق التعبير عن مصالحها الاقتصادية والثقافية. وبصراحة فإنه لا ينبغي أن تحدث «حلابجة» أخرى في المنطقة، فقد كان ذلك عارا يدفع العراق بكافة طوائفه الآن ثمنه؛ وعلى العراقيين البحث في كيفية التعويض لكل من أصابتهم ديكتاتورية صدام بالقهر والسوء. وثالثا فإن الاعتراف بحقوق الأقليات يفرض درجات من «اللامركزية» تتناسب مع كل حالة؛ وفي العراق فإن الدستور العراقي تعامل مع نوع من الفيدرالية التي تحتاج إلى إصلاح يجعل النظام السياسي أكثر كفاءة وفاعلية ليس فقط للأكراد، وإنما لكل العراقيين من كان منهم في الأغلبية أو كان من الأقلية. ورابعا أن الدولة الحديثة وفاعليتها تفرض الاحتكار الشرعي لأدوات العنف والسلاح في حكومة موحدة أو اتحادية تكفل لكافة الفرقاء في الوطن المشاركة في اتخاذ القرارات الكبرى المتعلقة بالأمن والثروة.
هذه الأركان الأربعة للأمن الإقليمي تمثل إطارا عاما للتعامل ليس فقط مع انفصال الأكراد في العراق، وإنما أيضا دعوتهم لحكم ذاتي في سوريا تمهيدا أيضا للانفصال، وكلها دعوات تفتح أبواب جهنم وصراعات لا تنتهي في وقت لا تزال فيه آلام الديكتاتورية، والحروب الأهلية في سوريا واليمن وليبيا والصومال وتوابعهما في لبنان والعراق تقلق المنطقة كلها وتضغط على أعصابها. وفي التاريخ فإن الدخول إلى هذه الحالة الحرجة يستدعي من دول الإقليم الراسخة مشروعا تاريخيا للمنطقة كلها، وبصراحة فإن دروس التجارب الماضية تقول: إنه إما تتعرض الأقاليم لأمراض التفسخ والتفتيت، أو أنها تندفع نحو التكامل والاندماج وربما الوحدة. وكان الانفصال السلوفاكي والتشيكي مخمليا لأن طرفيه السلوفاك والتشيك كانا يعلمان أنهما سوف يتحدان بعد انفصالهما في إطار من الاتحاد الأوروبي، وكلاهما الآن من أكثر الدول تمسكا بالاتحاد. ولعل نزعات الانفصال الموجودة في كاتالونيا الإسبانية تعتمد على هذه النظرة المستقبلية، وكذلك الحال بالنسبة لاسكوتلندا وشمال آيرلندا البريطانيتين فجميعهم يريدون انفصالا يقود إلى وحدة. مثل ذلك لا تزال ظروفه لدينا بعيدة، ومعالجة الحالة الكردية تتطلب الكثير من الحزم والحكمة التي تستند إلى قاعدة حصول الأكراد وغيرهم على الحقوق التي لا تهدم دولة، وإنما تعززها وتقويها.