د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

رهائن بطيب خاطر للآيديولوجيات

ظهرت الآيديولوجيا وعرفت مجدها وعصرها الذهبي في الفضاء الأوروبي الغربي، وأنتجت نخباً مهمة أسهمت من منظور آيديولوجي، في سياق تاريخي معين، في إنتاج رؤى مفيدة اجتماعياً واقتصادياً. ففي الأربعينات والخمسينات والستينات، كان يصعب جداً أن تجد مفكراً أو أديباً أوروبياً لا يحمل آيديولوجيا، ويدافع عنها نضالاً ونصاً وفكراً وتصوراً مخصوصاً للعالم والإنسان والعلاقات الاجتماعيّة.
ولكن أصواتاً كثيرة ذات شأن فكري ومعرفي كانت من الشجاعة والجرأة عندما أعلنت دون أي مواربة موت الآيديولوجيا، وأنّها استوفت وظيفتها، وأصبحت في تعارض مع ما عرفه الفكر الحديث النقدي من انفتاح وثورة على كل ما يضيق الخناق على الفكرة والعقل والنظرة إلى العالم.
طبعاً، ليس سهلاً مثل هذا الإعلان؛ وظهر جيل حاول المقاومة وضخ دماء في قلب الآيديولوجيا، وتكذيب خبر الموت. وفي هذا السياق الرافض المتعلق بالآيديولوجيا، ظهر الماركسيون الجدد وغيرهم، كإشارة إلى أن للآيديولوجيا أحفاداً من جهة، وتوظيفاً للبعد الديناميكي في تركيب الآيديولوجيا ذاته، الذي يسمح بالتجدد وبالتغيير داخل منظومة الآيديولوجيا من جهة ثانية.
غير أن النخب الأوروبية (الفكرية منها أكثر من السياسيّة) سرعان ما انتبهت إلى أن ما يبقى من الآيديولوجيا هو جزء من فكرة. وهو جزء مهم يتجاوب معه الواقع والتجربة، في حين أن البعد الطوباوي الموظف من أجل وضع العقل في سجن تلك الآيديولوجيا إنما يفقد جاذبيته مع تراكم الزمن وارتفاع صوت الواقع. لقد اكتشفت النّخب في الغرب أن الآيديولوجيا تنتج وعياً زائفاً، وتقدم تفسيرات غير صادقة في تعاملها مع الواقع وحقائقه. وهنا، نستحضر حديث كارل مانهايم عن التشوه الآيديولوجي.
ولكن نخبنا العربية في غالبيتها ما زالت ترزح تحت استعمار الآيديولوجيا، ولم تنخرط في استقلال الفكر وتعاليه عن الآيديولوجيات. فإذا بالتراشق الآيديولوجي سيد الموقف بين النّخب، وكل فريق يحاول إقصاء أصحاب الآيديولوجيا المختلفة: تناحر وتلاسن وشتائم وتخوين وتكفير... كل هذا يحدث باسم الآيديولوجيا، وبما تمنحه الآيديولوجيا من عنف وقتل رمزي لكل التصورات المختلفة أو المناقضة لها.
المشكلة أننا منشغلون بمعركة مجانية واهمة، تجاوزها الآخر ونحن لم نبرح مكاننا في الاعتقاد بالآيديولوجيا. والمشكلة الأكبر أننا نتعاطى مع هذه الآيديولوجيات بشكل يشبه إيمان العجائز، حيث لا ممارسة نقدية تظهر استقراء الآيديولوجيا والواقع والتراكم التاريخي؛ فنحن أمام وجوه أحياناً ماركسية أكثر من ماركس.
لو كان الأمر يتعلق بتناحر فكري - فكري لما استشعرنا بالخطورة، ولكن الملاحظ أن نخبنا تريد إدارة الشأن العام والحكم بالآيديولوجيات؛ أي أنّها تريد الحكم وحل مشكلات التنمية والتخلف والبطالة والفقر والأمية بالطوباويات التي أقامت جنازتها أوروبا، وأقبلت على الفكر بانفتاح لم يعرفه التاريخ الفكري الحضاري من قبل.
فأي دور اليوم لأحزاب تدعي الشيوعية وأخرى الإسلامويّة وثالثة القومية، والحال أن الشأن العام يحتاج إلى حلول اقتصادية، وتطمح شعوبنا إلى خوض الديمقراطية والتقدم في مسار المواطنة؟
أعتقد أن دورها جر شعوبنا إلى الوراء، وإهدار الزمن والطاقة في خصومات قديمة تروّج لما يسميه كارل مانهايم الوعي الآيديولوجي المشوه والوعي الزائف.
في الحقيقة، يضع هذا الارتباط الوهمي بالآيديولوجيا غالبية نخبنا في قفص الاتهام، ويجعل منها عبئاً حقيقياً، إلى جانب أعباء عينية أخرى. ذلك أن الانشغال بما هو طوباوي هو الذي جعل من غالبية أحزابنا السياسية غير قادرة على تقديم حلول عملية اقتصادية لشعوبنا التي تعاني من مشكلات اقتصادية بالأساس.
فهل تونس مثلاً حدثت فيها الثورة بسبب آيديولوجي، أو بسبب أسئلة تتعلق بالهوية الدينية الإسلامية، أم أن الحقيقة أن التونسيين خرجوا للشارع بسبب البطالة والتوزيع غير العادل للثروات، واستحواذ أقارب رأس النظام على 40 في المائة من الاقتصاد التونسي؟
من المهم جداً أن نعرف حاجات اللحظة، والدور المنتظر من هذه الأحزاب، حتى نستطيع التحدث عن نخبة تفكر بشكل منهجي وعملي وواقعي، وليست رهائن بطيب خاطر للآيديولوجيات الميتة، أو التي تحتاج إلى ورشة عمل نقدية شاقة وجريئة.
إن العالم المتقدم فكرياً اليوم ألغى مفهوم الآيديولوجيا من قاموسه، وعوضها بمفهوم التصورات، وهو مفهوم لا يحمل خلفيات سياسية، ويخدم إلى حد كبير قيم الموضوعية والتعددية الفكرية، خصوصاً الانفتاح على الفكر الإنساني، وتجاوز قهر الآيديولوجيات وقضبانها العتيدة.
هناك أزمة حقيقية اليوم في الأحزاب الموجودة في البلدان العربية: أحزاب تعتقد أن العمل السياسي منتدى آيديولوجي، وبحث عن هوية فكرية يتم بناؤها من مقبرة الآيديولوجيات التي طردها الواقع... طبعاً، يمكن ممارسة هذه الهواية في المجتمع المدني مثلاً، ولكن السياسة اليوم تحديداً هي علم الممكن، أي علم الواقع، وليست فقط فن الممكن، كما عرفها ميكافيلي.