خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

دفاع عن الشعر العمودي

بلغ الشاعر الظريف حافظ جميل الخامسة والسبعين عام 1983، وقرر الشعراء والأدباء الاحتفال بالمناسبة في نادي المنصور. ولكنهم على عادتهم قالوا ولم يفعلوا. بدلاً من ذلك أقام الشاعر هذا الاحتفال في بيته، فكانت جلسة إخوانية حضرها صديقه الشاعر والقاضي خالد الشواف. ألقى بالمناسبة قصيدةً إخوانيةً أشاد فيها بصاحبه. وكان بينهما علاقة وثيقة... قال:
خمس وسبعون، لا أين ولا سَأَمُ
يضني وتصدح في قيثارِهِ النغمُ
مغرداتٍ إذا ما هَزَّه طربُ
وشاكيات إذا ما مَسَّه ألَمُ
لاذت بأوتاره ممن تحيفها
فلم تخُنْها وظلَّ العهد والقَسَمُ
وعاش لا صحة تنسيه صحبَتَها
ولا جفاء إذا ما انتابه سَقَمُ
قال ذلك خالد الشواف ولم يصبر على قوله، فانطلق سريعاً لمهاجمة رواد شعر الحداثة. كان كلا الشاعرين قد عاش وأنتج في فترة الخمسينات التي ازدهر فيها شعر الحداثة، ولَمَعت نجوم المجددين والمتمردين، بيد أن تلك الموجة لم تمس أياً منهما. بقيا مخلصين لقوالب الشعر العمودي الكلاسيكي وأنماطه، كما لا بد أن لاحظ القارئ في الأبيات الواردة أعلاه. استغل المناسبة للإشادة بالشعر العمودي والتنديد بالحداثيين:
يا حافظ الشعر ممن راح يعبث في
ديباجتَيْهِ وممن راح يهتضمُ
أنت الأمين عليه والوفي به
إذا تنكر طَبْع معجَم وفمُ
وأنت تدرأ عنه كلَّ طارئةٍ
إذا أُبيحَ ولم تحفظ له حرم
يا من أقمت عمود الشعر ساريةً
من الفرائد لا يُطوى لها عَلَمُ
دع الصغار وفي أيديهم قصب
يطاولونَ وفي آنافهم وَرمُ
وخذ من القافياتِ الغرِّ ما مَنَحَتْ
من الخلود وعقبى الشانئ العدمُ
كان حافظ جميل من الشعراء المقلّين. وقلما يحفظ الناس شيئاً من شعره، بيد أن قصيدة واحدة خلدت في أذهان الجمهور، وما زالوا يرددونها ويتغنون بها. كان الشاعر يومئذ تلميذاً في لبنان، ووقع في هوى الآنسة كلمانتين في الجامعة الأميركية. مرت أمامه فناداها: «يا تين». التفتت إليه بابتسامة عذبة، فقال: «يا توت». أقبلت نحوه بصدرها، فقال: «يا رمان»، ثم لمح عينيها العسليتين، فقال: «يا عنب»! عاد لغرفته وسطر القصيدة التي سار مطلعها مسار النار في الهشيم.
يا تينُ يا توتُ يا رمانُ يا عنبُ
يا درُّ يا ماسُ يا ياقوتُ يا ذهبُ
تذكرها الشواف فوقف عليها:
قالوا تكرم شيخ الشعر، قلتُ: أجَلْ
فعندَ من قدروا لا تخفر الذمم
نعتموه بشيخ الشعر تكرمةً
فروح البكر لم يعرض لها هرم
وكل قافيةٍ عذراءَ أرسَلَها
تطوي الحديدين لا تحفى لها قدم
التينُ والتوت والرمان شاهدةٌ
خمسين عاماً نغنيها ولا سأَمُ
ومثلها أخوات، كل واحدةٍ
لها من السحر ما لا يبطل القدم
كم موحيات بلبنان هَرمْن ولَمْ
تهرب بهن معانيه ولا الكَلم