د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الذكاء الاصطناعي ومعدلات البطالة

مع التوجه الدولي للاستثمار في الذكاء الاصطناعي، زادت المخاوف بتأثير تطبيقات الذكاء الاصطناعي في سوق العمل على معدلات البطالة. هذه المخاوف لم تأتِ من العدم، ذلك لأن معدلات الإنفاق العالمي على تطوير الذكاء الاصطناعي في ازدياد مستمر. فبعد أن كان مجموع الاستثمار العالمي في هذا المجال لا يتجاوز 8 مليارات دولار عام 2015، قفز هذا المبلغ إلى ما يتجاوز 13 مليار دولار في العام الجاري، والمتوقع أن يزيد هذا المبلغ على 46 مليار دولار بحلول عام 2020، ومع إعلان صندوق الرؤية المشترك بين صندوق الاستثمارات السعودي وسوفت بانك الياباني - وهو من أضخم الصناديق الاستثمارية في العالم إن لم يكن أضخمها بقيمة تتجاوز 90 مليار دولار - تم الإعلان عن تخصيص جزء من هذا المبلغ للاستثمار في الذكاء الاصطناعي. هذه الأرقام العالية في الاستثمارات، تؤكد التوجه العالمي للاستثمار في هذا المجال، لا سيما بعد أن أثبت نجاحه في شركات مثل أمازون - حيث يدار كامل المخزون باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي – وجنرال إلكتريك. ويرى الكثير من المحللين الاقتصاديين أن تطبيق الذكاء الاصطناعي في المجالات الصناعية تحديدا سينتج مصانع بعدد موظفين أقل بكثير من العدد الحالي، وهو ما سيسبب زيادة في معدلات البطالة، وقد شكلت هذه التوقعات ضغطا شعبيا على الساسة في بعض الدول. وطالب البعض منهم الحكومات بتجهيز خطط بديلة للحفاظ على معدلات بطالة منخفضة حال تطبيق برامج الذكاء الاصطناعي في المجالات الصناعية.
إلا أن التجارب السابقة أثبتت أن هذه التغيرات التقنية، لا تتسبب في زيادة معدلات البطالة بشكل كبير، بل هي تسبب تغييرا في شكل سوق العمل، وذلك من خلال نقل الاحتياج في السوق من مجال إلى آخر. ولعل أول مثال على ذلك كان في عام 1470 في ألمانيا حين تمت طباعة أول كتاب. حينها قام الخطاطون باحتجاجات واسعة، معللين بأن اختراع الطابعة سيجلب لهم الويلات وبأنهم لن يستطيعون العمل في حال انتشرت هذه الطابعات. إلا أنهم ومع الوقت، اكتشفوا أن هذه الطابعات تحتاج لمن يحفر الأحرف في قوالبها، وتحول عمل هؤلاء الخطاطين من عمل كتابة متكرر، إلى عمل أكثر أهمية وأقل تكرارا. ومع تغير الزمن، تكررت هذه المخاوف أيضا مع ثورة تقنية المعلومات في التسعينات، مع نظرة الناس بأن العالم سوف يدار من الشاشات، وأن جهات العمل سوف تستغني عن كثير من موظفيها، إلا أن سوق العمل كانت لها رأي آخر، وزاد الطلب على موظفين يمتلكون مهارات الحاسب الآلي. ومن استطاع تطوير مهاراته وجد نفسه بفرص عمل أكثر، أما من احتج على هذا التغيير دون أن يطور نفسه، وجد نفسه من دون عمل وقد تخلف عن الركب. مؤخرا ومع زيادة كم المعلومات في شبكة الإنترنت، تضاعف عدد العاملين في جمع وتحليل البيانات مع تضاعف البيانات نفسها. خاصة مع زيادة أهمية أمن المعلومات ومراقبة المحتوى في الشبكة، سبب ذلك نشأة وظائف جديدة لم تكن مطلوبة قبل هذه التغيرات في التقنية. وتشير الأرقام بأن شركات مثل «فيسبوك» و«يوتيوب»، زادت عدد موظفيها لمراقبة محتوى هذه المواقع، خاصة مع زيادة الأنظمة الدولية لمراقبة المحتوى، والتي تحتم على هذه المواقع إزالة أي محتوى مخالف وإلا تعرضت هذه المواقع لغرامات مالية.
بالإمكان القياس على تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل بالتغييرات في أزمان سابقة. فأنظمة الذكاء الاصطناعي تحتاج حتما لمن يمتلك الخبرة لتشغيلها وصيانتها ونقل تقنيتها أيضا. والمستفيد الأول من هذه التقنية، هو من يدرك أن لهذه التقنية جوانب إيجابية، ليس من ناحية الإنتاجية أو الفعالية، بل من ناحية تأهيل موظفين تتناسب مهاراتهم مع هذه التقنية. ولعل التجربة الهندية في بداية التسعينات تعد المثال الأقرب لذلك، فالهند استفادت بشكل مثالي من ثورة المعلومات، وذلك بإنشائها كليات وجامعات خرجت ملايين المختصين بالحاسب وعلومه، حتى أصبحت تقنية المعلومات الأميركية تعتمد وبشكل يقارب 70 في المائة على الموارد البشرية الهندية. وفي الهند يعمل أكثر من 10 ملايين شخص في تقنية المعلومات، وهذا الرقم في ازدياد مستمر. وفي حين تحتج بعض الشعوب الغربية على أن الذكاء الاصطناعي سيسبب لها المزيد من معدلات البطالة، تتكيف دول أخرى مثل الصين والهند وكوريا على هذه الأنظمة، ليس على مستوى البحث والتطوير لهذه الأنظمة فحسب، بل وعلى مدى التخطيط الاستراتيجي لما يمكن أن تحدثه هذه الأنظمة من تغيير على المستوى الاقتصادي بشكل عام، وعلى سوق العمل على المستوى الخاص. فالتغيير في السوق اقتصاديا قادم لا محالة، وهذه الاستثمارات في المجال التقني سوف تؤتي ثمارها عاجلا أم آجلا، والمنتصر من يكون مستعدا لذلك التغيير حين حدوثه.