د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، مستشار بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
TT

من اليمن إلى السودان... لا للتقسيم

استمع إلى المقالة

اليمن والسودان دولتان عربيتان تعيشان في محنة وأزمة منذ أكثرَ من عقد، وبالرغم من خصوصية كل حالة من حيث التفاصيل، فإن ثمة جامعاً بينهما يمكن وصفه بمعضلة استمرار وبقاء الوحدة الجغرافية للدولة وحدود السيادة عليها وفعالية مؤسساتها. أصل المعضلة يعود إلى المشروعات والمغامرات السياسية والعسكرية التي تدفع إلى إعادة تركيب تلك الوحدة الجغرافية، لتصبح وحدات أصغر، لكل منها نخبة طامحة في الحكم، ولديها اتجاهات لا علاقة لها بمصالح الشعب، ولكن بمصالحها الخاصة جداً، وربما مصالح قوى خارجية وراءها تدفع نحو هذا التقسيم والتقزيم، دون إدراك لخطورة هذه التحركات. من المهم في هذه الحالة أن ترتفع الأصوات عالية بالقول لا للتقسيم أو الانفصال، وإن كان البعض يرى تلك المشروعات تخص دولة أخرى، قد تكون بعيدة عنه جغرافياً، فهي في المقام الأول تقدم نموذجاً لن يقتصر على هذه الحالة أو تلك، بل سيحفِّز آخرين على الفعل ذاته في دول أخرى، مما يضع دولنا العربية في مواجهة مجهول كبير، الجميع في غنى عنه.

حالتا اليمن والسودان تواجهان تلك المعضلة بفعل بعض أبنائها، الذين يمكن وصفهم بالمغامرين الذين أخطأوا في التقدير حين سعوا لتفجير الوطن الجامع، سياسياً وعسكرياً بمبررات لا علاقة بها بمستقبل البلاد وسيادته وحقوق شعبه، بل بمصالح جزئية وشخصية في المقام الأول. والرهان يدور حول دفعهم للتراجع عن تلك الحسابات الخاطئة، والتخلص من أوهام السيطرة على جزء من الوطن وتقزيمه، وإدخال الجميع في دوامة قد تستمر عقوداً طويلة. هذه مهمة صعبة، ولكن لا بديل عنها من قبل المخلصين المؤمنين بحقوق الوطن في العدالة والتنمية والكرامة. في الآن ذاته علينا ألا نتجاهل أن هناك وطنيين شرفاء يواجهون تلك المعضلة متمسكين بوحدة بلادهم وعدم التفريط فيها، مع تمسكهم بمعالجة الأزمة بسبل سياسية تنتج حالة تماسك مجتمعي ومؤسسي ينهي الجدل حول ما سبق، ويفتح أفاقاً لما هو مقبل من الأيام.

هذه الحالة المقلقة والخطرة في اليمن والسودان، بكل ملابساتها وإشكالياتها السياسية والأمنية والإنسانية لم تعد تخص أهل تلك البلاد وحدهم، فالجوار أياً كان، له حق التحرك لمنع الانزلاق نحو هاوية من الفوضى والخراب، فما بالنا بالجوار العربي والتداخل المجتمعي والمصير المشترك، الأمر هنا يمنح تدخل الجوار العروبي والمقرون بالأمن المشترك مستوى آخر من القوة، يستهدف إعادة بوصلة الأحداث نحو الاتجاه الصحيح؛ وعنوانه لا تفريط في الوحدة الجغرافية المعروفة، ولا اعتراف بالسلطات المفتعلة، ولا قبول للخرائط الجديدة التي يسعى إليها البعض، ولا قبول بالانقسام الواقعي الذي يفت في عضد الدولة، أو الانفصال غير المشروع بفعل فرط القوة الزائف، والأهم أنه لا تراخٍ في مساعدة القطاعات الوطنية ومؤسساتها ومنابرها المدنية من أجل تمكينها من توجيه الأمور، بما يُعيد للدولة ولمؤسساتها أدوارها الطبيعية الفاعلة، ولشعبها حقوقه في المواطنة والكرامة والتنمية.

حين أصدرت الخارجية المصرية بيانها الذي يتحدث عن الخطوط الحمر بشأن السودان، بعد لقاء قمة بين السيسي والبرهان، والذي تضمن بوضوح التحذير من خطط تقسيم السودان، أياً كانت المبررات، مع استدعاء اتفاقيات الدفاع المشترك وما فيها من التزامات تبادلية للدفاع عن الطرف المُعرَّض للعدوان، وتأكيد التدخل المصري المباشر إذا تم تجاوز تلك الخطوط الحمراء، لما لها من أثر مباشر على الأمن القومي المصري والأمن القومي السوداني، ومخاطر على الإقليم كله، فقد تصادف الأمر زمنياً وموضوعياً مع جهد تبذله المملكة العربية السعودية، عبر مهمة خاصة يقودها اللواء محمد عبيد القحطاني رئيس اللجنة الخاصة التابعة لمجلس الوزراء السعودي والمعنية بملف اليمن، هدفها احتواء التداعيات المقلقة للتوغل العسكري غير المبرر لقوات الانتقالي الجنوبي في محافظتي حضرموت والمهرة، وعودة الأمور إلى ما قبل هذا التوغل، مع إعادة تموضع قوات درع الوطن التي تتبع رئيس المجلس الرئاسي رشاد العليمي في المواقع العسكرية والأمنية في المحافظتين، وتمكين الحكومة الشرعية من العمل في عدن دون قيود أو عقبات، مع أولوية تطبيق اتفاق الرياض وقرار إنشاء المجلس القيادي الرئاسي ومهامه الكبرى بالتركيز على مهمة دحر الحركة الحوثية أولاً، وتأجيل المطالب الجزئية لما بعد استعادة الشرعية إلى صنعاء. المهمة بهذا الشكل تعني أولوية الحفاظ على اليمن الموحد دون سواها، وإغلاق ملف انفصال الجنوب.

في كلتا الحالتين، اليمن والسودان، ثمة تحرك عسكري يختلف في مستوى العنف، لكنه يتعارض مع الأسس القانونية التي تحكم الدولة، كما تتعرض الوحدة الجغرافية لكل منهما لخطر الانقسام. وهنا يأتي التحرك المصري بخصوص السودان، والتحرك السعودي بخصوص اليمن من منطلق واحد، وهو الحفاظ على الخريطة دون تعديل، أي بقاء الدولة بكل مقوماتها ومؤسساتها، وبذل كل ما يمكن بذله للمساهمة في حل الإشكاليات الداخلية سلمياً. منع التقسيم والانفصال في جوهره هو منع للفوضى الإقليمية إذا ما استقر وضع الانقسام وانتصرت المغامرات العسكرية غير القانونية. كلا البلدين مصر والمملكة العربية السعودية قوة عربية وإقليمية تشترك في تحمل المسؤولية العربية والإنسانية دون تذمر سواء تجاه اليمن أو السودان أو غيرهما، وهما تعملان بجد من أجل ازدهار مواطنيهما بحكمة في القرار ورشُد في السياسة والأداء، وتسعيان للتعاون مع الجميع من دون استثناء لترسيخ المصالح المشتركة والمتوازنة، وتدخلهما المباشر حميد ومشروع يستحق التقدير، ويستحق التأييد.