شهد الذكاء الاصطناعي خلال السنوات القليلة الماضية نمواً هائلاً، وانتقل بسرعة مخيفة من كونه تقنية متخصصة إلى عنصر أساسي في التحول الرقمي العالمي، مغيّراً بذلك طريقة عمل القطاعات المختلفة من الصحة والتعليم إلى المال والخدمات اللوجيستية، ومع نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، تسارعت وتيرة هذا النمو بشكل لافت، ومع تسابق المؤسسات لاعتماد هذه التقنيات، شهدت البنية التحتية التي تعتمد عليها، أي مراكز البيانات، توسعاً غير مسبوق، ووسط هذا التوسع، تبرز تساؤلات جادة حول التكلفة البيئية لهذا النمو، واللافت أن أول ما يتبادر إلى الأذهان عند الحديث عن التكلفة البيئية، هو الانبعاثات الكربونية أو الاستهلاك العالي للطاقة، ولكن الحديث هنا تكلفة أخرى بيئية، وهي الاستهلاك الضخم للمياه.
مع كون مراكز البيانات، التي تُشغّل أنظمة الذكاء الاصطناعي، من أكثر المنشآت استهلاكاً للطاقة، فإن استهلاكها للمياه غالباً ما يكون خفياً عن الأنظار، إذ تعتمد هذه المراكز على المياه لتبريد الخوادم التي تعالج كميات ضخمة من البيانات، وذلك لمنع ارتفاع درجات الحرارة التي قد تؤدي إلى فشل الأنظمة أو تلف البيانات، وتعتمد تقنيات التبريد مثل أبراج التبريد التبخيري أو التبريد الهوائي المدعوم بالمياه على كميات هائلة من المياه العذبة، وغالباً ما تكون صالحة للشرب، لضمان استمرارية الأداء، ولضرب المثل عن كمية هذا الاستهلاك، تكفي معرفة أنه في عام 2023 فقط، استهلكت مراكز البيانات في الولايات المتحدة أكثر من 75 مليار غالون من المياه، وهو ما يعادل تقريباً استهلاك مدينة لندن ذات العشرة ملايين نسمة لمدة لا تقل عن أربعة أشهر.
وتتطلب عملية تدريب النماذج اللغوية الضخمة كميات هائلة من المياه، إذ تستهلك دورة تدريب واحدة لهذا النموذج في مراكز بيانات «مايكروسوفت» ما يصل إلى 5.4 مليون لتر من المياه، منها 700 ألف لتر تتبخر مباشرة أثناء التبريد، وتُقدر التوقعات أن الذكاء الاصطناعي سيحتاج إلى سحب ما بين 4.2 و6.6 مليار متر مكعب من المياه سنوياً بحلول عام 2027، وهو ما يفوق استهلاك بعض الدول بأكملها، حتى التفاعل اليومي البسيط مع أنظمة الذكاء الاصطناعي، مثل إدخال الأوامر النصية، قد يستهلك ما يقارب نصف لتر من المياه لكل مجموعة صغيرة من الأوامر، ما يجعل التأثير البيئي ضخماً عند النظر إلى الاستخدام العالمي اليومي.
والبصمة المائية للذكاء الاصطناعي لا تقتصر فقط على التبريد المباشر في المراكز، بل تشمل ثلاثة مجالات رئيسية، الأول هو المياه المستخدمة مباشرة داخل مراكز البيانات، أي تلك التي تتبخر أثناء التبريد، والثاني يتعلق بالمياه المستخدمة خارج الموقع لإنتاج الكهرباء التي تشغّل هذه الخوادم، حيث تستهلك محطات إنتاج الكهرباء التقليدية كميات كبيرة من المياه، أما المجال الثالث فيشمل المياه المستخدمة خلال سلسلة الإمداد، لا سيما في تصنيع المعدات والأجهزة الخاصة بالذكاء الاصطناعي مثل الشرائح والمعالجات، وهي عمليات تتطلب مياهاً نقية بكميات كبيرة وتؤدي في كثير من الأحيان إلى تصريف مياه ملوثة بالمواد الكيميائية.
ورغم تعهدات بعض الشركات الكبرى بتحقيق أهداف بيئية، فإنها غالباً ما تُقيم مراكز بياناتها في مناطق تعاني من شح المياه، فعلى سبيل المثال، ازداد استهلاك «غوغل» للمياه في عام واحد بنسبة 20 في المائة ليصل إلى أكثر من 21 مليار لتر، فيما شهدت «مايكروسوفت» زيادة بنسبة 34 في المائة، وفي ولايات مثل فرجينيا، التي تعاني من الجفاف، تتزايد المخاوف من تأثير التوسع في مراكز البيانات على موارد المياه المحلية، خصوصاً مع وجود مشاريع جديدة ضخمة قيد الإنشاء، في أماكن أخرى مثل ولاية أوريغون الأميركية، تصاعدت الاحتجاجات المجتمعية ضد مراكز البيانات بسبب الضغط الذي تسببه على الموارد المائية المحلية.
إن النظر في الاستدامة البيئية في مجال الذكاء الاصطناعي أصبح ضرورة لا يمكن تجاهلها، وفي حين تحاول بعض الشركات تطوير أنظمة تبريد مغلقة لإعادة استخدام المياه، أو نقل منشآتها إلى مناطق غنية بالمياه، وقد ساعدت حلول إعادة التدوير في بعض المراكز على تقليل الاستهلاك بشكل ملحوظ، إلا أن الخبراء يرون أن الابتكار التقني وحده لا يكفي، فهناك حاجة إلى تشريعات صارمة، وشفافية في الإبلاغ عن استهلاك المياه، وتخطيط أكثر ذكاءً في اختيار مواقع المنشآت الجديدة.
إن مستقبل الذكاء الاصطناعي، بكل إمكاناته المبهرة، يجب أن يكون مصحوباً بإحساس عميق بالمسؤولية البيئية، ومواجهة هذا التحديات تتطلب وعياً، والتزاماً، وحلولاً شاملة لضمان ألا تتحول هذه التقنية من أداة لحل المشكلات إلى مصدر جديد لها، لا سيما مع النظر إلى التوسع السريع والمنافسة العالمية في هذا المجال.