في واحد من أهم الأحداث التاريخية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، أطاحت الثورة السورية بأحلام إمبراطوريتين يشكّل وصولهما إلى شواطئ المتوسط أهمية قصوى، هما إيران وروسيا، وأبعدتهما عن الساحل السوري، بعدما كان الاتفاق الذي وقَّعته الحكومة اللبنانية مع إسرائيل قد أبعد إيران عن السواحل اللبنانية. وبسقوط نظام بشار الأسد خسرت روسيا حليفاً رئيسياً كان يؤمِّن لها حضوراً في كل شؤون المنطقة السياسية والاقتصادية.
لا شك في أن مقدمات هذا الحدث الاستراتيجي ترتبط بوضعية روسيا في النظام الدولي وبانشغالها في الحرب على أوكرانيا، إضافةً إلى أن تبعثر أولوياتها هي وإيران تجاه الشأن السوري أفضى إلى هذه الخسارة، في حين كانت تسعى لإحداث تعديلات على التوازن في النظام الدولي تحت مسمى التعددية القطبية، وكانت قد فاقمت هذا السعي مع احتلال شبه جزيرة القرم (2014) والتدخل في سوريا (2015) وصولاً إلى الاعتقاد أن العالم أصبح في مرحلة «ما بعد الغرب».
ولقد شملت تحالفات روسيا في الشرق الأوسط دول وتنظيمات ما كان يطلق عليه «نظام الممانعة» التي كانت تنافس حلفاء الولايات المتحدة وتشكل تهديداً للوجود الأميركي، وقد ساعدها ذلك على رفع منسوب أحلامها لتغيير النظام الدولي. وبالعودة إلى منتصف التسعينات، فقد صاغ وزير خارجية الاتحاد الروسي يفغيني بريماكوف، رؤيته لما أطلق عليه «عالم متعدد الأقطاب»، التي ارتكزت على التطلع شرقاً باتجاه تحالف يضم روسيا والصين ويشكل نواة لتحالف دولي يحقق شيئاً من التوازن مع الغرب، وذلك بعد سنوات على سقوط الاتحاد السوفياتي وبالتزامن مع تراجع نفوذ روسيا في الشرق الأوسط.
ومع الرئيس فلاديمير بوتين، بدءاً من عام 2000، توسعت التطلعات القومية لإعادة إحياء المجال الحيوي لروسيا وصولاً إلى التدخل في سوريا عام 2015 بذريعة محاربة الإرهاب. وخلال انعقاد منظمة الأمن والتعاون في برلين عام 2017 دعا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إلى قيام نظام عالمي جديد أطلق عليه تسمية «عالم ما بعد الغرب».
ترجع نظرية «عالم ما بعد الغرب» إلى البروفسور الفرنسي دومينيك مواسيه عام 2010 الذي عبّر عنها في دراسة جيو-بوليتيكية أطلق عليها عنوان «عالم ما بعد الغرب وعالم ما قبله»، حيث يُرجع جملة من التحولات التي افترض حصولها في المستقبل إلى العوامل الديمغرافية التي تجعل من الغرب في عام 2050 أقلية سكانية مقارنةً مع باقي العالم. إذ يقول: «ستمثل الولايات المتحدة وأوروبا 12 في المائة فقط من سكان الكوكب بحلول عام 2050».
إضافةً إلى مواسيه، وعلى خلفية الأزمة المالية العالمية عام 2008، صدر كثير من الأدبيات في الغرب تتحدث عن مرحلة ما بعد الإمبراطورية الأميركية ونهاية نظام القطب الواحد. وتصدّر هذه النظريات إيمانويل تود الذي سبق له أن تنبأ بسقوط الاتحاد السوفياتي، إضافةً إلى فريد زكريا وريتشارد هاس وغيرهم. وكانت حاشية بوتين تطرب كلما قرأت واحدة من هذه النظريات.
من ثم أتت الحرب على أوكرانيا في إطار التحضير لعالم ما بعد الغرب، حيث هناك اعتقاد تقليدي قديم لدى الروس يقضي بأن التوسع غرباً يبدأ من أوكرانيا، ومن دونها لا يمكن لروسيا أن تصبح قطباً عالمياً. وهذا الاعتقاد تكوّن أيضاً لدى زبغنيو بريجينسكي ومعظم الدوائر ومراكز الأبحاث الأميركية. ولقد كشف المفكر الروسي ألكسندر دوغين عن أنه في أكثر من مناسبة كان ينصح بوتين بغزو أوكرانيا بهدف تغيير التوازن الدولي.
وفي الأيام والأسابيع الأولى لغزو أوكرانيا تحدث المسؤولون الروس عن احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة ظناً منهم أن الشرق سيصطف إلى جانبهم في مواجهة الغرب. لكن الصين، شريكة روسيا التقليدية، لم تذهب إلى الحد الذي أمِلَتْه روسيا ولم تُفرّط بعلاقاتها التجارية مع الغرب، لا سيّما أن «منظمة شانغهاي» و«الاتحاد الاقتصادي الأوراسي»، وكل التكتلات الإقليمية والدولية التي تضم روسيا والصين لم تنجح في فتح «طريق الحرير» إلى أوروبا، ولا في التحرر من قبضة الدولار واتفاقية «بريتون وودز».
بالتوازي، اعتمدت روسيا على إعادة رسم الخط الاستراتيجي وفقاً للقاعدة الثنائية التقليدية التي ينقسم عليها العالم، الذي يُبقي على اصطفاف شرق - غرب بشكله الآيديولوجي، ولا يُضيف إليه أي إمكانات أو قيَم جديدة، وهذا الأمر أظهرته طبيعة التحالفات التي لجأت إليها روسيا واقتصرت على نماذج الاستبداد القومية في العالم، وعلى ما كان يُسمى «نظام الممانعة» في الشرق الأوسط.
في النتيجة، وبعد الحرب التي أطلقتها إسرائيل على غزة و«حزب الله»، وسقوط نظام الأسد في سوريا، يعود الدور المُهيمن للولايات المتحدة الأميركية في تشكيل المناخ السياسي والاستراتيجي في الشرق الأوسط، في محاولة لتشكيل ما أطلق عليه كيسنجر «التوازن المتجانس» وفقاً للنموذج الأوروبي، وذلك بشكل أقوى مما كان عليه منتصف السبعينات ومرحلة ما بعد «كامب ديفيد»، أو في بداية التسعينات بعد حرب الخليج الثانية ومساري مدريد وأوسلو.
ومع هذا التحول في الشرق الأوسط وانحسار دور إيران وانهيار المنظمات المرتبطة بها، ومع تغير الإدارة الأميركية وحالة الصعود التي أطلقها الرئيس دونالد ترمب بولايته الثانية، يمكن السؤال: لماذا فشلت روسيا في تحقيق نوع من التوازن في عالم متعدد الأقطاب؟ وما النموذج الذي تطرحه على العالم بديلاً عن الديمقراطية الغربية؟ وبالتالي يمكن أيضاً السؤال عمّا تبقى من نظرية «عالم ما بعد الغرب» التي أطلقتها روسيا وتعايشت معها كأنها حقيقة واقعة؟!
* باحث وكاتب سياسي لبناني