هدى الحسيني
صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، عملت في صحف ومجلات منها: «الأنوار» في بيروت، و«النهار» العربي والدولي و«الوطن العربي» في باريس ، و«الحوادث» و«الصياد» في لندن . غطت حرب المجاهدين في افغانستان، والثورة الايرانية، والحرب الليبية - التشادية، وعملية الفالاشا في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الاولى. حاورت الخميني والرئيس الأوغندي عيدي أمين.
TT

أزمة الغرب الخانقة تحيي استثماراته في الشرق الأوسط!

استمع إلى المقالة

لا بد لنا من العودة إلى التاريخ الذي لا يزال في ذاكرة كثيرين من معاصريه، وكتبنا عنه قبل أحداث العام المنصرم الذي ودّعناه قبل أيام، وهي أحداث مفصلية ستُغيّر منطقة الشرق الأوسط.

في نوفمبر (تشرين الثاني) 1956، حصل عدوان ثلاثي «بريطاني - فرنسي - إسرائيلي» على مصر بعد إعلان الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر تأميم شركة «قناة السويس»، التي كانت تملك حصرية الاستثمار، في حين كان المالك الحقيقي بريطانيا. وقد انتهت الحرب بسبب ضغط أميركي قاده الرئيس دوايت آيزنهاور لاعتبارات سياسية دولية، أجبر المعتدين على وقف القتال، والانسحاب من منطقة القناة. يومها عَدّ الرئيس عبد الناصر أن مصر انتصرت بصمودها أمام ثلاثة جيوش كبرى، مدعياً إلحاق الأذى في صفوف الغزاة، وأصبح الرئيس المصري بعدها قائداً بلا منازع، يُلهب قلوب 100 مليون عربي من «المحيط الهادر إلى الخليج الثائر». إلا أن النشوة التي دامت نحو عشر سنوات، والتي بُنيت بشكل كبير على وَهْم، ما لبثت أن تلاشت بعد كارثة حرب الخامس من يونيو (حزيران) 1967، والتي شَنّت فيها إسرائيل حرباً على ثلاث جبهات، فاحتلت الجولان والقدس والضفة الغربية وسيناء وغزة خلال ستة أيام، وقضت على الجيوش؛ المصري والسوري والأردني، التي فقدت كل إمكانية للقتال. وأدركت الشعوب العربية يومها أنها وقعت ضحية التضليل، وادعاء فائض القوة. وقد ظهر عبد الناصر على التلفزيون والإذاعة وأعلن الهزيمة، التي تحمّل مسؤوليتها بالكامل، وقدّم استقالته. وقد تراجع عن الاستقالة بعد تظاهرات وأصوات مطالبة ببقائه في مركز القيادة. وتقول غولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل السابقة في مذكراتها: «إن اعتراف عبد الناصر بالهزيمة كان مصدر قلق لها، لإدراكها أنه سيكون هناك بعد ذلك عمل جدي دؤوب لاستعادة الكرامة المصرية، وستكون هناك مواجهة أشد وأقسى على بلدها».

وفي مايو (أيار) 2000، أعلنت إسرائيل انسحابها من جنوب لبنان؛ حيث أنشأت شريطاً حدودياً داخل العمق اللبناني أطلقت عليه اسم «دولة لبنان الحر». وكان هذا الانسحاب بعد فشل المفاوضات السورية - الإسرائيلية، التي اشترط فيها حافظ الأسد، الرئيس السوري آنذاك، استمرار الاحتلال في الجنوب اللبناني، ليُشكل ورقة ضغط في المفاوضات. وقد أعلن يومها «حزب الله» أن تحرير الجنوب كان بسبب ضرباته على العدو الصهيوني، فذاع صيت الحزب وقائده من المحيط إلى الخليج، وأصبحت صوره في البيوت، واعتُبر أنه قاهر الصهاينة الذي أعاد شرف الأمة المسلوب. واستمر الزهو 18 عاماً، سيطر فيها الحزب على لبنان وسوريا، وتدخل في شؤون الدول إرهاباً وإفساداً، إلى أن حصلت موقعة «البيجرز» في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، والتي قتلت وأعاقت المئات من مقاتلي الحزب خلال لحظات، بتفجير الأجهزة التي يتواصلون بها مع قيادتهم وبعضهم. كما قام «الموساد» بتفخيخ أجهزة اللاسلكي المستعملة في الحزب بمصنع الإنتاج. وقد اعترفت إسرائيل بمسؤوليتها عن هذه العملية. بعد ذلك بأسابيع قليلة، شنّت إسرائيل حرباً على الحزب، فنالت من قيادييه في الصف الأول، ومنهم الأمين العام حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، وضربت مواقع الصواريخ ومخازن الأسلحة وأبنية المراكز، واغتالت عشرات المقاتلين، ودمرت البنية التحتية وفروع «القرض الحسن»؛ المؤسسة المالية التي روّج لها نصر الله.

وكما في هزيمة الأيام الستة عام 1967، شعر كثيرون من البيئة الحاضنة للحزب، وكذلك المؤيدون على مساحة العالم العربي، بالدهشة والإحباط من عدم قدرة الحزب على الرد المزلزل لإسرائيل كما ادعى نصر الله.

الفارق الأهم بين الهزيمتين كان الاعتراف بالتقصير، وتحمّل المسؤولية في هزيمة 1967، والانطلاق بعد ذلك بعملية إعادة بناء الجيش والدولة، والذي أدّى إلى الانتصار العسكري الوحيد على إسرائيل عام 1973، أما في عام 2024 فهناك إنكار للهزيمة، واستمرار في التضليل والكذب.

أوراق محور الممانعة تتساقط، أولاها «حزب الله»، الذي يُجمع المراقبون على أنه لن يستطيع النهوض عسكرياً بعد اليوم؛ خاصهً بعد إقفال خط إمداده عبر سوريا، وإحكام السيطرة الأميركية - الإسرائيلية على البحر والجو. وكذلك سقطت ورقة سوريا الممانعة بالفرار المذل لبشار الأسد، الرئيس السابق، وأصبح واضحاً أن مغامرة «حماس»، فيما سُميت بعملية «طوفان الأقصى»، أصبحت في حكم المنتهية، بعد تدمير غزة وقتل القادة. وتقوم المباحثات الآن حول الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لقاء ترحيل آمن لمن بقي من قادة «حماس»، وإلا القضاء عليهم. كما أن إزالة خطر الحوثيين يجري على قدم وساق. وعند سقوط جميع أوراق الممانعة، والتي يمكن أن تشمل العراق أيضاً، سينتهي المشروع الإيراني التوسعي، الذي دام ما يقارب العقود الأربعة، تبجح فيها يوماً بالسيطرة على خمس عواصم عربية.

السؤال الأهم هو: ماذا بعد أفول الممانعة؟ يقول محدثي، وهو دبلوماسي بريطاني خبير في شؤون الشرق الأوسط، إن القضية أبعد بكثير من قضية مشروع إقليمي يحل مكان آخر، فالعالم، خصوصاً الغرب، يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، تتم معالجتها بالاستدانة؛ حيث وصل الدين العالمي -حسب أرقام صندوق النقد- في منتصف العام الماضي إلى 100 تريليون دولار، أو 93 في المائة من إجمالي الناتج العالمي. وقد أدرك أصحاب القرار أن هناك حاجة ماسة لزيادة الإنتاج، وتكبير حجم اقتصاد الدول الصناعية التي تستحوذ على القسم الأكبر من الدين العالمي لكي لا ينفجر الوضع، ولهذا فهم يتجهون إلى الأمن المستدام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الغنية لقيام المشاريع العملاقة، وإعادة البناء الذي ستستفيد منه الشركات الغربية، صاحبة الخبرات والتكنولوجيا، لتنمو وتكبِّر اقتصاد بلادها. ثم قال محدثي إن الشرق الأوسط سيكون قبلة المستثمرين ووجهتهم.