سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الثرثار الرائع

استمع إلى المقالة

وسط هذه الفوضى الكونية العارمة، عاد الكثير من الزملاء إلى ينابيع الأدب والروايات، بحثاً عن الشواهد والمشابهات.

أكثرهم استعاد، كما هو متوقَّع: «مائة عام من العزلة»، لغبريال غارسيا ماركيز. وعثروا فيما عثروا، على نوع من القربى بين آل بونديو في كولومبيا وآل الأسد في سوريا. وأعتقد أن في ذلك نوعاً من التأثر العاطفي والإعجاب البالغ بساحر الرواية اللاتينية. غير أن ذلك لم يمنعني من العودة إلى نصوص «غابو» واكتشفتُ، للمرة الأولى وأنا أعيد قراءة مذكراته: «عشتُ لأروي»، أن الرجل لم يكن أحد عظماء الرواية على مرّ التاريخ، وإنما كان، في الحقيقة، حكواتيّاً، ثرثاراً مكثاراً، مهذاراً لا يمكن لأحد أن يوقفه عن الكلام.

كان الأجدر بقارئي ماركيز أن يبدأوا بمذكراته بدلاً من روائعه. عندها يدركون أنه لم يترك شاردة أو واردة، أو ابتسامة، أو حكاية، أو قطاراً صاعداً في جبال الأنديز، أو قطاراً فارغاً في محطة ناعسة، أو مسافراً وحيداً في محطة نائمة، أو رجلاً يعزف الموسيقى على الطريق، أو كيف حاولت أمه أن تبيع المنزل الوحيد الذي تملكه العائلة. ولم ينسَ أن يخبرك أنه الابن الحادي عشر لأبٍ يعمل مديراً لمحطة البريد في المدينة، ثم هناك خالته أو عمّته، والنزاع بينه وبين والده حول ضرورة الحصول على شهادة جامعية.

كل ذلك ولم نصل بعد إلى بداية عمله في الصحافة، حيث يبدأ، حائز نوبل فيما بعد، الكتابة في صحيفة يومية نحو ثماني ساعات في النهار بأجرٍ لا يكفيه ثمن الطعام وأجرة الانتقال إلى المبنى. لذلك كان الحل الوحيد أن يقترض، ولكن ممن؟ جميع مَن حوله زملاء وأقرباء فقراء مثله، والده يقترض بدوره لكي يؤمّن تعليم إخوته، لأن الأب يؤمن بأن لا سلاح في الحياة أكثر ضمانة من الشهادة الجامعية، وكان يشعر بمرارة وألم، لأن «غابو» منصرف إلى مهمة الفقراء والبائسين من حملة الأقلام والأحلام.

تبدو مذكرات ماركيز وكأنها دليل عبر رحلة جميلة ومعقدة في حياته وفي أعماله. ويخبرنا الرجل الذي اعتقدناه بوهيميّاً لأنه كان يفضل حياة التشرد، أنه في الحقيقة كان يعتني بالنص، وكأنه فرض مدرسي، كما يخبرنا بأنه لم يقرأ يوماً أيّاً من الكتّاب الذين تأثر بهم، إلا لأجل أن يتعلم منهم، وليس من أجل أن يمتّع النفس بالأسلوب، أو التجلي، أو الحبكة الدرامية. ويبدو أن أستاذه الأول كان ويليام فوكنير كاتب الجنوب الأميركي وأساطيره الشعبية، وخرافاته، ومآسيه التي لا حدود لها.

لا تقرأ مذكرات ماركيز إذا كنتَ قد قرأتَ أعماله. إنها مجرد إضافات سردية خالية، بسبب واقعيتها من روعة السحر، والبديع، التي تميّز الرواية.