عام جديد يهلّ على المنطقة، في عهدته ملفات قاتمة، ومعادلات شديدة التعقيد، الخرائط غير مستقرة، والشعوب أيضاً. ما بين عامي 2011 و2025 خط ليس مستقيماً، وفوضى أنهكت المنطقة والإقليم. عواصم عربية مهمّة عدّة، لا تزال تعاني آثار تصدعات ما يُسمّى «الربيع العربي»، دمشق تأخّرت ثلاثة عشر عاماً، عاشتها في حصار وحروب، وافتقار إلى الأمن والأمان، وانقطاع للدبلوماسية مع شقيقاتها العربية، ومعظم دول العالم أصدرت ضدها قرارات دولية عدة، أبرزها قانون «قيصر». لكل مرحلة نهاية، وسوريا تبدأ مرحلة جديدة. العيون تترقّب المستقبل السوري، وانعكاساته على الإقليم. الأخطار تتزاحم، وتزداد الأسئلة، ثمة أجوبة عائمة، وأخرى غاطسة. من نكد المهنة على الصحافي ألا يتوقف عن الكشف عما وراء الخبر.
أفضل لحظات الصحافي أن ينجح في تبديد الضباب من حول قصة معينة، أو أنه يستطيع تقدير موقف دقيق مستقبلي، لحدث مشتعل مثل الذي يجري في سوريا. حاولت أن أقف على مسافة بعيدة من الحدث لأرى الصورة كاملة، قلت لنفسي لا يُفتى ومالك في المدينة. لي صديق دبلوماسي وخبير في الشأن السوري، سألته كيف ترى المستقبل السوري؟ بعد صمت وتأمل قال: صديقي العزيز... سوريا ليست مثل أي بلد آخر، هي قلب بلاد الشام التي كانت تشمل سوريا الحالية، وفلسطين، ولبنان، والأردن، وبعض أجزاء من العراق الحالي، وبعضاً من أجزاء تركيا الحالية، وعلى مدى قرنين لن يتوقف القضم والقطع من أراضيها، وكما ترى الخريطة القديمة البالغة مساحتها 307 آلاف كيلومتر، منها سوريا تبلغ 185 ألف كيلومتر فقط، أي أكبر بلاد الشام من حيث المساحة، لكن موقعها شرق المتوسط، وفوق جزيرة العرب، جعلها رقماً صعباً في معادلات المتغيرات الجيوسياسية، ويقال لا حرب من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا، وهي معادلة صحيحة، أثبتتها وقائع المنطقة، خلال القرنين الماضيين.
توقف متحدثي برهة، ثم قفز من الماضي إلى الحاضر مباشرة: أما سوريا اليوم، وما يجري فيها الآن، فهو متصل بهذا التاريخ الطويل، من تداخلات قوى إقليمية ودولية على مر العصر الحديث. كلامي هذا ليس حصة في التاريخ، إنما هو إضاءة حول ما يحدث في سوريا، ولا سيما منذ ما يُسمّى «الربيع العربي»، فلا شك أن الأوراق تداخلت، وتهشّمت ملامح الاستقرار الدمشقي، وكل ما تشهده الآن يتحقّق. صحيح تأجّل سنوات عدة. قائلاً: لا نستطيع أن نغفل العوامل المحيطة بالدولة السورية، سواء العامل الإسرائيلي الضاغط بقوة من أجل مشروعه التوسعي في سوريا، سواء باحتلاله الجولان، أم بتوسعه فيه، وصولاً إلى ريف دمشق، وكانت ضرباته للأسلحة الاستراتيجية السورية دليلاً على رؤيته التوسعية تلك.
أما العامل الثاني فهو الضاغط التركي بميراثه الطويل، سواء في العصر العثماني الممتد، أم في العصر الحالي الذي يرغب في استعادة نفوذه الاستراتيجي من جديد. هنا توقف محدثي وسألني: هل تعلم أن تركيا كانت لديها علاقات وثيقة بالدولة السورية السابقة، قبل أن يحدث افتراق ما يُسمّى «الربيع العربي»؟ وهل تعلم أن حجم التبادل التجاري بين البلدين قبل عام 2011 وصل إلى 18 مليار دولار؟ وهل تعلم أن تركيا استضافت ستة لقاءات سرية بين سوريا وإسرائيل، بحثاً عن توقيع اتفاق سلام؟ قاطعت محدثي وقلت له:
لكن ماذا عن المستقبل؟ قال: إن سوريا بلد حيوي، ولا يمكنه أن يبقى على موضع واحد، فحيويته الثقافية والحضارية تجعله يغيّر من مواقع أقدامه في المراحل التاريخية، وهو الآن بلد يواجه تحولات ضخمة في الأفكار والرؤى والسياسات، لكنه سرعان ما يعود إلى استقراره، وذلك في صالح المنطقة العربية، والإقليم والعالم، فليس من مصلحة أحد أن يتم تمزيق الخرائط السورية، أو أن تصبح مسرحاً لقوى إقليمية أو دولية، فلا يهمنا الآن سوى أن تكون سوريا الدولة والدور، فيجب ألا ننسى -يا عزيزي- أنها عضو مؤسس في جامعة الدول العربية، وحاربت كل حروب العرب، وأسهمت بقدر وافر في الثقافة السياسية والاجتماعية الحديثة. ولذا، فإن التريث مهم لها بصفتها دولة، ولنا، بصفتنا أصحاب الإقليم العربي. أنهى محدثي كلامه، لأختم حديثي معه قائلاً: جرّبت شعوب المنطقة الفوضى، وآن لها أن تمنع عودة تلك السنوات العصيبة التي عصفت بالخرائط والشعوب.