بعد نحو ثلاثة أسابيع، سيتسلم الرئيس الأميركي المُنتخب دونالد ترمب سلطاته الدستورية، ويبدأ في ممارسة أعماله، وتنفيذ أفكاره المثيرة للجدل دائماً، ورغم أن قطاعاً مُعتبراً من النخب السياسية والمؤسسات والجمهور يعارض سياساته وطريقته الخاصة في إدارة الأمور، فإنه لم يُظهر مخاوف من «منافس» مُحتمل كما فعل في الأسبوع الماضي.
لم يحظ ترمب، خلال الانتخابات الرئاسية التي أهلته للعودة إلى البيت الأبيض، بمنافسة قوية أو مُرهقة؛ فلم تكن كامالا هاريس خصماً صعباً، بسبب ما تردد عن افتقادها لكاريزما القيادة، والأحمال الثقيلة التي عوقت مسيرتها نتيجة ارتباطها بالإدارة التي تستعد للرحيل. وقبلها كان الرئيس جو بايدن «منافساً نموذجياً»؛ فالرجل لم يكن في حالة صحية أو ذهنية أو سياسية تسمح بخلق منافسة جادة، وقد تكفّل الخطاب الشعبوي المثير لترمب، ومعه الكثير من إخفاقات الديمقراطيين، بتسهيل الأمور له، ليحقق فوزه المثير.
وبينما كانت أصوات المعارضين للرئيس المُنتخب تخفت في الداخل، والعالم ينشغل بترتيب أوضاعه مع سيد البيت الأبيض الجديد، والجميع ينتظر ما ستتمخض عنه «الحالة الترمبية» عندما تحكم وتبدأ في تفعيل رؤاها الخاصة، راح البعض يتحدث عن «منافس مُحتمل»، ولديه حظوظ، يمكن أن يُضيق ساحة الزعامة التي يبتغيها ترمب أو يطمح في وراثة منصبه بعد انقضاء ولايته المُنتظرة.
أما هذا المنافس المُحتمل؛ فليس أحد أعضاء النخبة السياسية التقليدية في واشنطن وليس كادراً حزبياً ذا تاريخ سياسي، وإنما هو إيلون ماسك، رجل المال والأعمال والصناعة والتكنولوجيا... وأخيراً الإعلام.
تعتقد أوساط ترمب، وإيلون ماسك أيضاً، أن بعض أركان الحزب الديمقراطي، الخاسر والمتراجع سياسياً، سعوا إلى دق إسفين بين الرجلين لفصم عُرى التحالف الناجح بينهما، وتقويض العلاقة القوية التي ربطتهما وأثمرت نجاحاً مدوياً قادهما إلى سدة السلطة... معاً.
وفي الأسبوع الماضي، واصل ماسك نشاطه السياسي المؤثر بأن انخرط في مفاوضات مع أركان مجلس النواب بشأن إقرار تمويل المرافق الحكومية، وقد مارس هذا الدور بوصفه الرجل الذي اختاره ترمب لإدارة دفة لجنة الكفاءة الحكومية، المعنية بمكافحة البيروقراطية الفيدرالية، وتخفيض موازنتها، وجعلها أكثر رشاقة ونجاعة، بل وإعادة هيكلة الإدارة الحكومية برمتها.
وإضافة إلى هذا الدور السياسي الرفيع الذي انتُدب له ماسك؛ ترددت أنباء في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عن أنه التقى السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة أمير إيرواني لـ«بحث كيفية نزع فتيل التوتر بين واشنطن وطهران».
ولم يكن هذا كل ما فعله ماسك غداة إعلان ترمب رئيساً مقبلاً للولايات المتحدة؛ إذ إنه حافظ أيضاً على حضور دائم إلى جانب الرئيس المُنتخب، كما شارك في بعض المكالمات الهاتفية التي أجراها مع زعماء العالم للتهنئة وبناء الشراكات.
واليوم، بدا واضحاً أن ماسك خطط جيداً لإدراك هدفه السياسي، إذ بدّل آراء وغيّر ولاءات وأبرم صفقات صعبة وخاض معارك وسجالات حادة، لكننا نعرف الآن أنه فعل كل ذلك لأن خطته كانت أن يفوز ترمب، وأن يمنحه موقعاً سياسياً مؤثراً في إدارته، وقد نجح في ذلك نجاحاً كبيراً وكسب رهاناً صعباً.
كانت تلك هي الأنباء الجيدة بالنسبة إلى ماسك وخطته، كما كانت أنباء طيبة أيضاً بالنسبة إلى ترمب، الذي حظي بحليف مؤثر ومشهور وديناميكي، وسخي كذلك؛ إذ تبرع لحملة الرئيس المُنتخب بنحو 250 مليون دولار، وسخّر له منصة «إكس» («تويتر» سابقاً)، التي اشتراها في صفقة عُدّت «مجحفة»، وبلغت قيمتها نحو 44 مليار دولار، وقد عرفنا لاحقاً أنها كانت صفقة مدروسة، بالنظر إلى أنها استُخدمت رافعة فعالة لحمل ترمب إلى سدة الرئاسة.
أما الأخبار السيئة لكل من الحليفين؛ فتمثلت في نجاح الديمقراطيين في دق الإسفين المُنتظر بينهما؛ إذ اشتكى ماسك، في الأسبوع الماضي، من أن «دُمى السياسة والإعلام التقليدي تلقوا تعليمات للسعي إلى خلق شرخ بيني وبين الرئيس المُنتخب». بينما تسلّلت المخاوف إلى ترمب نفسه، وهو الأمر الذي دعاه للقول إن «ماسك لا يستطيع أن يكون رئيساً، لأنه لم يُولد في الولايات المتحدة... أنا بأمان».
سينظر كثيرون إلى هذه القصة من زاوية التنافس الطبيعي في المجال السياسي، الذي يمكن حتى أن يكون بين «أوفى الحلفاء»، لكن ثمة زاوية أخرى جديرة بالنظر أيضاً في هذا الإطار؛ إذ يبدو أن الدور الذي يلعبه «الإعلام الجديد» في ترتيب أوضاع السلطة، والتنافسية السياسية، يتّسع ويتغوّل على ما عداه من أدوار. وقد كان هذا ما تعلمناه من صفقة شراء «تويتر»، وما تلاها من صعود ماسك القياسي، والدعم النوعي الذي تحقق لترمب، على أسنّة رماح تكنولوجيا الوسائط الجديدة.