رامي الشاعر
مستشار سياسي في روسيا
TT

اليوم التالي...تحديات تواجه سوريا المحررة

استمع إلى المقالة

لا شك أن المشاهد المؤثرة للاحتفالات الشعبية الواسعة في دمشق وحلب وحمص واللاذقية وعدد من المدن السورية ستُحفر في ذهن ووعي وإدراك المواطن السوري والعربي إلى الأبد.

لقد عكست في وجدان المراقب الطريق الشاق والطويل الذي عبرته الثورة السورية، لتصل إلى تلك اللحظة التاريخية الفارقة.

ولكننا راقبنا مثل هذه المشاهد سابقاً، في تونس ومصر وليبيا وغيرها. لا شك أن الوضع السوري مختلف؛ فهو أعقد وأكثر اشتباكاً، وفوق هذا وذاك فقد ارتوت الأرض السورية بأنهار من دماء الشهداء، وعرف الشعب السوري كل ألوان المآسي، مروراً بظلمات السجون والتعذيب والزلازل المدمرة، وانتهاءً بشظف العيش وانقطاع المياه والكهرباء وسائر المرافق واللجوء إلى شتى بقاع الأرض. ناهيك من كمِّ الدمار الذي لحق بالمدن والقرى.

ولا ننسى أن نظام بشار الأسد نجح وأجهزته الأمنية القمعية نجاحاً منقطع النظير في أن يجعل الشعب في حلب وحماة وحمص، وحتى دمشق، وربما اللاذقية، يستقبل أي قيادة بديلة بالزهور.

فقد طال انتظار السوريين للحرية. وما نراه اليوم من مظاهر الترحيب بالثوار وقادتهم رد فعل طبيعي.

كنتُ على مدى سنوات من القريبين جداً من الملف السوري بكل تعقيداته. وشاركت في مفاصل مهمة مختلفة في توجيه رسائل مباشرة إلى النظام، بما في ذلك من خلال كتابين، حمل الأول عنوان «سوريا المكافحة»، والثاني «سوتشي 2018... طريق السلام».

وفي كل ما كُتِب، على مدى سنوات، لم تنقطع الدعوة للقيادة السورية السابقة إلى ضرورة فتح قنوات الحوار، والجلوس إلى طاولة مفاوضات، التزاماً بقرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة رقم «2254». ولم تتوقف المساعي لحث النظام على تفعيل العمل في إطار اللجنة الدستورية المصغّرة؛ الأمر الذي كان يمكن أن يسفر عن تجنُّب الانفجار، ووضع آلية هادئة للانتقال السلمي.

لقد أصبحت المعارضة السورية المسلحة، بقيادة أحمد الشرع، ورئيس وزرائه محمد البشير، في مقعد القيادة اليوم. وخرج السوريون بغالبيتهم الساحقة ليحتفلوا بأولى نسمات الحرية... خرجوا ليحتفلوا بزوال الطغيان. لكن اليوم التالي هو ما يحدِّد مصير سوريا، وليس فقط مشاهد كنس الشوارع وشعارات «بدنا نعمرها»... مع أهمية هذا وذاك بكل تأكيد.

اليوم التالي، والزمن وحده هو ما سيحكم على مصير سوريا والقائمين عليها؛ حيث تواجه سوريا - القيادة الانتقالية الحالية تحديات غير مسبوقة. فقد تغوَّل الاحتلال الإسرائيلي في جنوب البلاد، واخترق حدودها، بعد أن دمَّر القواعد والدفاعات العسكرية السورية، بذريعة أنه «يؤمّن» نفسه، و«يدافع» عن حدوده. ولم يعد الحديث الآن يدور عن مصير الجولان فحسب، بل يدور حول الدفاع عن سوريا وحمايتها من مخطَّط التوسُّع الإسرائيلي الصهيوني في المزيد من أراضيها، وهو ما يثير مخاوف في غاية الخطورة بشأن وجود الدولة السورية ضمن حدودها المعترَف بها دولياً.

وهذا الوضع حذَّرت موسكو منه لسنوات، ولم يتم التعامل معه بجدية كافية، جراء التعنُّت والصلف. لكن هذا التحدي يجب التعامل معه عبر مراكمة جهود والانفتاح بقوة على المحيط العربي والتعامل على ترتيب وضع السلطة الانتقالية في مسار قانوني مستقر. وداخلياً، لا بد من إجراء محاكمات انتقالية عادلة وشفافة ومعلَنة، مع إصدار العفو والسماح عمَّن لم تتلوث أيديهم بالدماء.

الشعب السوري اليوم يقف أمام معضلة وجودية، ولا بد من الخروج سريعاً من الدائرة المفرغة التي تكرَّست خلال سنوات.

في الوقت نفسه، لا بد من توجيه رسائل طمأنة لمن يخشى سيناريو الحرب الأهلية. لا شك أن سوريا أبعد ما تكون عن سيناريو أفغانستان، والشعب السوري والقيادة الحالية يبدون قادرين على تجاوز كل مخلَّفات نظام القمع والاستبداد والطائفية التي عانى منها خلال العقود الأخيرة.

لا شك أيضاً أن المشاهد التي خرجت اليوم من سوريا مطمئِنة إلى حد بعيد، لكنها حتى الآن ليست أكثر من صورة إعلامية مشرقة، نتمنى أن تكتمل بأفعال وإجراءات على أرض الواقع. أولها فيما أحسب العودة إلى قرار مجلس الأمن رقم «2254»، مع اقتراح تعديلات مناسبة، وضمان أن يكون تنفيذه قائماً على دمج جميع مكونات الشعب السوري بعملية سياسية نزيهة تضمن سيادة الشعب السوري على كامل ترابه الوطني، ومنح كل السوريين بجميع أطيافهم وأعراقهم وعقائدهم الحقَّ في التعبير عن إرادتهم الحرة.

وفي رأيي الشخصي المتواضع، أرى أنه يتعيَّن على الأمم المتحدة ومبعوثها الشخصي، بيدرسن، بالدرجة الأولى، وفوراً، السعي لإلغاء جميع العقوبات الاقتصادية على سوريا، والبدء بتقديم المساعدات، خصوصاً الوقود والغذاء والدواء، حتى يتعافى الاقتصاد السوري الذاتي، الذي تتوفر لديه جميع إمكانيات الاستقلال الذاتي، من أجل النهوض بسوريا وتطوّرها ورفع مستوى معيشة شعبها الذي يقدِّس قيم العمل والاجتهاد والدأب والعطاء والكرامة والحرية.

أما عن روسيا، وبينما لم ينقشع الضباب بعد عن تفاصيل العملية التي جرى بموجبها فرار الأسد من المشهد، فأعتقد أن روسيا نجحت للمرة الثانية في أن تُجنِّب سوريا وشعبها نير الحرب الأهلية الواسعة. وحتى مع عدم تفهُّم بعض السوريين لذلك في الوقت الحالي، وهو ما أسفر عن تعرُّض البعثة الدبلوماسية الروسية لتهديدات في دمشق، نتيجة لجوء بعض الشخصيات التي استغلَّت فرصة الفراغ الأمني للقيام بتصرفات مدانة. مع ذلك، فإن المستقبل سوف يكشف، عاجلاً أم آجلاً، كلَّ ما قامت به روسيا من أجل الدفاع عن إرادة ومقدَّرات وموارد الشعب، كما ستكشف روسيا يوماً، وأنا على يقين من ذلك، تفاصيلَ عمَّن ارتكبوا جرائم بحق الشعب من جميع الأطراف، ولا يمكن لروسيا أن تحتفظ أو تساعد أشخاصاً لهم سوابق مثبتة ضد الشعب السوري، ولو على أرفع المستويات.

وقد برز خلال الأيام الأخيرة سؤال ملحّ حول مستقبل الوجود الروسي العسكري في سوريا. يجب التأكيد على أن روسيا لا تتمسك بأي وجود عسكري لها على الأراضي السورية، ولا على أراضي أي دولة خارج حدود الأراضي الروسية. والوجود الروسي كان بطلب محدَّد من الحكومة السورية السابقة، وبالتوافق مع قرارات مجلس الأمن لمحاربة التنظيمات الإرهابية، وفقاً لتصنيف المجلس التابع للأمم المتحدة. ولا أستبعد أن تتضح الأوضاع في القريب العاجل، وكذلك طبيعة العلاقات بين سوريا وروسيا، وأن يتم التخلي عن/ أو تقليص القواعد العسكرية الروسية في حميميم وطرطوس. وقد غادرت السفن العسكرية الروسية التي كانت ترسو في ميناء طرطوس، وانسحبت جميع دوريات الشرطة العسكرية الروسية من مواقعها، وعادت إلى مراكز تجمعها. وأعتقد أنها قد بدأت في مغادرة الأراضي السورية بالتنسيق مع مجموعة آستانة، بعد أن كانت وظيفتها الحفاظ على نظام التهدئة وعدم الاقتتال في سوريا.

ويجب ألا ننسى أن القيادة الروسية أرسلت إلى الأسد عدة مبعوثين في مراحل مختلفة لحثه على أن يبدأ فوراً بعملية الانتقال السياسي السلمي. وقد وعد الأسد مراراً، لكنه لم يحول وعوده إلى أفعال.

العنصر الثاني الذي ينبغي الالتفات إليه هنا أن الأسد لم يقم بما فعله الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، الذي يُحسَب له أنه لم يترك فراغاً في السلطة، وسلَّمها للجيش المصري؛ ما ساعد في تسريع وتيرة عودة الاستقرار.

الآن، أصبحت السلطة الحقيقية في يد الشعب السوري، وأكرِّر ثقتي العالية بالقيادة التي ستلبي طموحات الشعب السوري، واليوم يجب أن يعترف الجميع بأنها السلطة الواقعية والحاكم الفعلي للبلاد، وأشير هنا إلى تجربة هذه السلطة في إدارة شؤون محافظة إدلب من قبل، بكل ما مرَّت به من نجاحات وحتى إخفاقات، ربما، لكنها أدارت المحافظة على الرغم من حرب النظام السوري ضدها. ولا شك في أهمية أن تنضم إليها مكونات من الشعب السوري المصنفة كمعارضة للنظام السابق في دمشق.

وأنا على ثقة من تعاون المنطقة العربية والمجتمع الدولي لإقالة سوريا من عثرتها، حتى يكتب السوريون بدمائهم ومعاناتهم وبحروف من ذهب مواد دستور سوريا المستقبل، الذي سيسطر فيه الشعب السوري نظام الحكم وشكل الدولة وحقوق المواطن الحر في دولته الحرة المستقلة.

أنطلق من الثقة الكاملة بأن سوريا لن تسقط في هاوية المواجهات الداخلية ولا في فراغ دستوري.

* مستشار سياسي في روسيا