أُسدل الستار على الانتخابات الأميركية بعودة مثيرة ومرتقبة للرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في شهر يناير (كانون الثاني) المقبل، بعد هزيمة المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، بجانب سيطرة متزايدة للحزب الجمهوري على مفاصل صنع القرار في الولايات المتحدة في أكثر من مؤسسة سياسية، ما يعطيه مرونة أكبر في عملية صنع القرار والعملية السياسية بشكل عام. وفي الوقت الذي يعكف فيه ترمب على تشكيل فريق العمل المصاحب له في فترة رئاسته المقبلة، وخاصةً كبار مساعديه، تزداد التساؤلات المشروعة حول ما تحمله هذه العودة بالنسبة لبقية دول العالم، وخاصةً فيما يتعلق بأوجه التعاون أو الصراع على الساحة الدولية.
أي أن الأكثر أهمية وإثارة بالنسبة لبقية دول العالم هو معرفة توجهات السياسة الخارجية الأميركية في الفترة الثانية من رئاسة ترمب. وهنا يكون الحديث عما ستكون عليه العلاقات بين القوى الدولية، وكذلك موقفه من المنظمات الدولية ووكالاتها، بالإضافة إلى نظرته إلى التكتلات والتحالفات الإقليمية والدولية، بما فيها الاقتصادية وغير الاقتصادية. وذلك في ظل المواقف المتصلبة التي اتخذها في الفترة الرئاسية الأولى، الأمر الذي جعل البعض يقول - آنذاك - إنها قادت إلى إضعاف الأسس التي بني عليها النظام الدولي الليبرالي (في شقيه: السياسي والاقتصادي). لكن من المهم أيضاً النظر إلى ما تحمله الفترة الرئاسية الثانية بالنسبة للأزمات الإقليمية والحروب القائمة في مناطق مختلفة من العالم.
بالنسبة للموقف من القوى الدولية المنافسة والقضايا المتعلقة بذلك، من المتوقع استمرار ترمب في نهجه الرامي إلى ترسيخ قيادة أميركا حول العالم وفقاً لمنظوره الشخصي الذي يستند إلى «تقاسم الأعباء وتحمل المسؤوليات»، وعدم السماح للقوى الدولية الأخرى، بما في ذلك الصديقة منها (في أوروبا وغيرها) والمنافسة منها (مثل الصين)، بالاستمتاع بوضعية «الراكب المجاني» للاستفادة من الاستقرار السياسي العالمي من ناحية، وحرية التجارة من ناحية أخرى، دون تحمل جزء من المسؤولية أو الأعباء المترتبة على حماية النظام الدولي والحفاظ على استقراره، لا سيما بالنسبة لبعض السياسات الاقتصادية لبعض الدول، والسياسات الدفاعية للبعض الآخر. بالإضافة إلى الاستمرار في معالجة الخلل في الميزان التجاري بين واشنطن وبعض شركائها التجاريين الرئيسيين. وهذا في الحقيقة ما قاد إلى حرب تجارية بين واشنطن وبكين خلال الفترة الرئاسية الأولى لترمب.
وفي الإطار نفسه، كان للرئيس ترمب موقف حاد تجاه الوكالات والمنظمات الدولية، والتي انسحبت واشنطن من عضويتها أو علّقت سداد حصتها فيها، بحجة عدم تناغمها مع مواقف واشنطن من بعض القضايا... إلخ. ولا يقل الأمر خطورة بالنسبة لشراكات وتحالفات واشنطن الخارجية، كما في الضغوط التي مارسها على حلف «الناتو» للمساهمة بشكل أكبر في ميزانية الحلف الدفاعية. وكذلك قراره في بداية فترة رئاسته عام 2018 بالانسحاب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ الذي يضم 12 دولة، بحجة الوصول إلى اتفاق تجاري أكثر عدالة مستنداٌ إلى شعار «أميركا أولاً»، وتعديل اتفاقية التجارة الحرة مع كندا والمكسيك السابقة المعروفة بـ«نافتا».
بالتالي من المتوقع أن يستمر الرئيس ترمب في نهجه السابق الرامي إلى تعزيز مصالح أميركا حول العالم، وخاصةً في المجال الاقتصادي، بما في ذلك من خلال السعي إلى تصحيح أي خلل في علاقات واشنطن التجارية حول العالم ما أمكن، وهو الأمر الذي قد يعيد التوتر إلى علاقات واشنطن مع بعض المنافسين الآخرين، وفي مقدمتهم الصين. وبشكل عام، من غير المستبعد أن يسعى ترمب إلى تبني استراتيجية «السلام من خلال القوة»، وهو الشعار أو النهج الذي تحدث عنه ترمب نفسه من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2020 للتعامل مع المخاطر السياسية والأمنية القائمة أو المحتملة. والسعي كذلك لوضع حد للنزاعات القائمة التي تهدد السلام العالمي دون أن تكون ضرورية من وجهة نظر أميركية، كما في الحرب في أوكرانيا والحرب الدائرة في الشرق الأوسط. ويمكن في هذا السياق الإشارة أيضاً إلى إمكانية أن يعود ترمب إلى توظيف استراتيجية «الضغط الأقصى» حيال بعض القوى الإقليمية التي يرى بأنها تهدد الاستقرار الإقليمي في منطقة أو أخرى.
من ناحية أخرى، من الطبيعي ألا يستطيع ترمب تغيير وجه السياسة الدولية بشكل جذري، خاصةً أنه يواجه الكثير من التحديات الداخلية والخارجية التي يتوجب عليه التعامل معها، بالإضافة إلى حقيقة أن لديه فقط فترة رئاسية واحدة لا أكثر، فيما يظل نهجه السياسي مختلفاً عن سابقيه، حيث لا تشكل «السياسة الشعبوية» نهجاً شائعاً أو مألوفاً في السياسة الأميركية، بما في ذلك في إطار الحزب الجمهوري ذاته، ما يجعلها مرتبطة أكثر بوجوده في سدة الحكم. لكن على الرغم من ذلك، ورغم تنامي تأثير القوى الدولية الأخرى على الساحة الدولية والتكتلات الإقليمية أو الدولية ذات الصلة، فإن واشنطن تظل الأكثر تأثيراً في مجرى السياسة الدولية وتوجهاتها، بما في ذلك تأثيرها على الأسس التي تدعم استقرار النظام الدولي من عدمه، والحد من المخاطر التي تحدق به في فترة تشهد فيها الأجندة الدولية تغيراً ملحوظاً تعاظمت فيه أهمية قضايا جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحروب الإلكترونية وسباق التسلح في مجال الفضاء الخارجي وقضايا التغير المناخي... إلخ. كما أنه من غير المستبعد أن تساهم عودة ترمب إلى البيت الأبيض في تشجيع عودة الأحزاب السياسية ذات الشعارات والتوجهات الشعبوية إلى الواجهة، كما حصل في بعض الدول الأوروبية خلال فترة رئاسته الأولى.