د. خالد منزلاوي
الأمين العام المساعد للشؤون السياسية الدولية بجامعة الدول العربية
TT

«ميثاق المستقبل»... تأسيس لمرحلة جديدة

استمع إلى المقالة

في حقبة مفصلية ومهمة يقف العالم فيها عند مفترق طرق ويمر بمنعطف تاريخي، فإنَّ قمة المستقبل في نيويورك هي أكثر من مجرد اجتماع بروتوكولي لقادة العالم؛ فهي تمثل نقطةَ تحول حاسمة للإنسانية والدبلوماسية وتعددية الأطراف، ولحظة حاسمة للتعاون العالمي من أجل تطوير الحوكمة الدولية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وتحقيق التنمية والازدهار. وهو ميثاق ركز على الوقاية العالمية والسلام المستدام، والترابط بين السلام والأمن والتنمية، وفيه تمت صياغة اتفاقيات دولية جديدة وتحويلها إلى عمل على أرض الواقع لوضع العالم على مسار أفضل يفيد الجميع، ويهدف إلى تحسين الظروف الحالية وحماية المستقبل للأجيال القادمة.

وتمَّ تأطير ذلك في اتفاق رئيسي يُعرف بـ«ميثاق المستقبل» فيه دعوة للعمل والإصلاح لوضع العالم على مسار أفضل يعود بالخير على الجميع في كل مكان، ويعمل على معالجة الالتزامات الدولية القائمة منذ فترة طويلة والتحديات الناشئة، وتضمّن الـميثاق الرقمي الدولي. وإعـلان الأجيال المقبلة هو الاتفاق الدولي الأوسع نطاقاً منذ سنوات عديدة، وتتويج لعملية جامعة استغرقت سنوات لضمان تكيف التعاون الدولي مع وقائع اليوم وتحديات الغد.

فقد أصبح التعاون العالمي ذو الفاعلية أكثرَ أهمية، لكنَّه لا يزال يواجه العديد من التحديات، وخاصة في خضم الصراعات المستعرة، والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة، والاستقطاب، وانعدام الثقة المتزايد في الأنظمة المتعددة الأطراف، وكلها تقوّض المبادئ الأساسية للعلاقات الدولية وللدبلوماسية وصنع القرار، وهو الأمر الذي أثر بلا شك على هياكل الأمم المتحدة، التي تم تأسيس العديد منها منذ عقود، ولكنَّها للأسف لم تعد عادلة أو فعالة بما فيه الكفاية.

ولمعالجة هذه العقبات، يهدف الميثاق إلى تنشيط النظام الدولي، وضمان استعداده بشكل أفضل لمواجهة التحديات العالمية الحالية والمستقبلية، كي يواصلَ النظام العالمي تقدمه الاقتصادي، ويتعزز سلامُه الاجتماعي، وتتسارع الجهود الرامية إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ولن يكون ذلك من دون تعزيز النظام المتعدّد الأطراف لـمواكبة التغيرات العالمية وحماية احتياجات ومصالح الأجيال الحالية والمستقبلية.

ركَّز الميثاق على التنمية المستدامة، والسلم والأمن الدوليين، والعلوم والتكنولوجيا، والشباب والأجيال القادمة، وإحداث تغيير في الحوكمة العالمية.

إنَّ أحدَ الأهداف الرئيسية لميثاق المستقبل هو إحياء أجندة 2030 للتنمية المستدامة، لكونها أفضلَ مخطط لدينا لحماية مستقبلنا المشترك، ولكن التقدم نحوها واجه العديد من الصعوبات، وتولدت قناعة تامة بأنَّ أجندة عام 2030 وتحقيق أهدافها للتنمية المستدامة، يتطلَّبان المزيدَ من الجهود الدولية، من خلالِ اتخاذ إجراءات عاجلة وواسعة النطاق، إضافة إلى تغيير بعض السياسات وزيادة الاستثمارات، لتسريع التقدم وضمان تحقيق الأهداف في الوقت المحدّد. وعلى وجه الخصوص، ستكون هناك حاجةٌ إلى زيادات كبيرة في الاستثمار المالي في البلدان النامية المثقلة بالديون، ما يصعب عليها الاهتمام بالصحة والتعليم. ومن دون اتخاذ إجراءات عاجلة وواسعة النطاق، ستظل هذه الأهداف بعيدة المنال.

فلا يمكن تحقيق التنمية من دون إرساء دعائم السلم والأمن، التي تستدعي جهوداً حثيثة من أجل منع نشوب النزاعات وحلّها بالطرق السلمية.

ونظراً لأهمية التكنولوجيا والتعاون الرقمي، فإنَّ الـميثاقَ الرقمي العالمي، الملحق بميثاق المستقبل، سيعمل على سد الفجوات الرقمية، حيث سيكون أول اتفاق عالمي بشأن تقنيات الذكاء الاصطناعي، ليضعَ أسسَ إنشاء منصة دولية يكون مركزها الأمم المتحدة، تجمع جميع الأطراف على إطار عالمي شامل للتعاون الرقمي وحوكمة الذكاء الاصطناعي، والتزام تصميم واستخدام وإدارة التكنولوجيا لصالح الجميع؛ لكونها مجتمعة تشكل عاملاً حاسماً في التصدي للتحديات البيئية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى كون هذا الاتفاق أولَ اتفاق عالمي حقيقي حول تنظيم الذكاء الاصطناعي على الصعيد الدولي. فالازدهار في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي القوية قد يحسّن بالفعل حياة الناس، لكنه أيضاً زاد من إلحاح المطالبات بالتنظيم مع تنبه المزيد من الحكومات للمخاطر.

إضافة إلى ذلك، فإنَّه لم يغفل الأهمية الكبيرة لدور الشباب بعدِّهم القوةَ المحركة لبناء المستقبل، فكان إعلان الأجيال القادمة الذي تمَّ التركيز فيه على أهمية مراعاة القادة بوضع المستقبل في عين الاعتبار، عندما يتخذون قراراتهم الآن. ومن جهة أخرى يهدف إلى تمكين الشباب وتنمية قدراتهم الإبداعية، وتهيئة بيئة تلبي تطلعاتهم وطموحاتهم. لذا يتوجب العمل بحكمة وبصيرة لتنفيذ سياسات تضع الأجيال القادمة في محور الاهتمام وما يهيئ لهم مستقبلاً أفضلَ وأكثر استدامة.

وفيما يتعلق بإحداث تغيير في الحوكمة العالمية، فإنَّ الأثر الأكبر سيكون في مجال الأمن والسلم، لأنَّه يمثل الالتزام الأكثر تقدمية، ويدعو صراحة إلى إصلاح مجلس الأمن، ويركّز على خطط لتحسين فاعلية المجلس وتمثيله.

وتطرَّق إلى تعزيز الأطر الدولية التي تحكم الفضاء الخارجي، بما في ذلك الالتزام الواضح بمنع سباق التسلح في الفضاء الخارجي، والحاجة إلى ضمان قدرة جميع البلدان على الاستفادة من الاستكشاف الآمن والمستدام للفضاء الخارجي. ودعا إلى اتخاذ خطوات لتجنب تسليح وإساءة استخدام التقنيات الجديدة، مثل الأسلحة القاتلة المستقلة، وأعاد التأكيد على أنَّ قوانين الحرب يجب أن تنطبقَ على العديد من هذه التقنيات الجديدة.

إنَّ ميثاق المستقبل بما ركز عليه من محاور وما تضمنه من ميثاق رقمي عالمي، وإعلان للأجيال القادمة، يؤسس لمرحلة جديدة من العمل المتعدد الأطراف، ويؤكد الدور الحيوي للأمم المتحدة في إرساء القواعد والأعراف الدولية، وتعزيز العمل الجماعي، ويسهم في إرساء أسس معاصرة لنظام دولي منصف وعادل وسريع التجاوب، يقوم على المسؤولية المشتركة والتضامن الإنساني من أجل عالم أكثر عدلاً وأمناً واستدامة.