د. إبراهيم العثيمين
كاتب سعودي
TT

لبنان... الجمود كصخرة جلمود

استمع إلى المقالة

بعد مرور أكثر من عام ونصف على الفراغ الرئاسي في لبنان، منذ نهاية ولاية الرئيس السابق ميشال عون في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، وفشل مجلس النواب في القيام بدوره في انتخاب رئيس جديد للبلاد خلال 12 جلسة عُقدت لذلك، لا يزال الجمود مسيطراً على المشهد السياسي اللبناني، ولا تزال القوى السياسية والطائفية في حالة استقطاب وخلاف حاد، حالت حتى الآن دون التوافق على رئيس للجمهورية.

وفي محاولة لكسر الجمود والتوصل إلى حل يُنهي الأزمة، تسعى «اللجنة الخماسية» الدولية، التي تضم كلاً من الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر، عبر جولاتهم المكوكية لعقد اجتماعات مع رؤساء الكتل النيابية، لتسهيل الحوار بين هذه الأطراف وحثّها على إخراج الاستحقاق الرئاسي من التأزم بانتخاب رئيس للجمهورية، إلا أن هذه الجهود أيضاً ما زالت تراوح مكانها، في ظل إصرار كل طرف على موقفه، مما يصعّب من مهمة اللجنة في إخراج لبنان من أزمته الحالية.

ورغم حدة الأزمة الحالية وتزامنها مع تدهور اقتصادي واجتماعي كبير جداً، وتوترات إقليمية وتأثيراتها السلبية على لبنان، فإنها ليست جديدة على لبنان، حيث اعتاد لبنان للأسف على شغور المناصب القيادية مثل رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء. وانتقال السلطة في لبنان دائماً ما يصاحبها تشنج سياسي أو طائفي إلا في حالات استثنائية. وهذا برأيي انعكاس حقيقي وتعبير عن مجموعة من العوامل المتشابكة والمترابطة لطبيعة النظام السياسي اللبناني وبنيته، وأزمة الفراغ الرئاسي ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، إن صحَّ التعبير. فالنظام الطائفي الذي أقرّه دستور 1926 بشكل رسمي من تخصيص المناصب الرئيسية في الدولة على أساس الطوائف. ثم جاءت الحرب الأهلية الدامية التي استمرت أكثر من 16 عاماً، لتكريسها، ولَّدت لاحقاً آثاراً سلبية على بنية المجتمع اللبناني الذي أصبح يعاني الاصطفاف الطائفي والمذهبي، وأسهمت بشكل كبير في إبراز التصدع والترنّح في النظام السياسي وعدم قدرته على الاستقرار.

ونتيجة لهذه الحالة المستمرة من عدم الاستقرار السياسي، شهدت مؤسسات الدولة، خصوصاً الأمنية منها، ترهلاً واضحاً، بسبب بروز انتماءات وولاءات إلى هويات ما دون الدولة أضحت تقوم مؤسساتياً مقام الدولة، وأثرت سلباً على قدرة الدولة على بسط سيطرتها. ف«حزب الله»، بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، وبسبب ضعف الدولة، تحوَّل إلى دويلة داخل الدولة. ولولا ضعف مؤسسات الدولة لما استطاع التمدّد عمودياً وأفقياً بهذا الشكل الذي شلَّ قدرات الدولة على الحركة.

ونعلم أنَّ الاغتيالات والأحداث المأساوية التي شهدتها الساحة اللبنانية، والتي كان «حزب الله» متورطاً، بشكل مباشر أو غير مباشر فيها -بدايةً من اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 2005، مروراً باغتيال اللواء وسام الحسن رئيس فرع المعلومات لقوى الأمن الداخلي في 2012، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت في 2020- تعكس بوضوح هذا الترهل المؤسساتي. ف«حزب الله» الآن يمثل القوة الوحيدة على الساحة السياسية اللبنانية والمهيمن على جميع مؤسسات الدولة.

يقول فرنسيس فوكوياما، أحد أهم الفلاسفة والمفكرين الأميركيين المعاصرين، في كتابه «بناء الدولة... الحكم والنظام العالمي في القرن الحادي والعشرين»: إن جوهر الدولة هو في مقدرتها على فرض قرارها بالقوة. عندما خرجت الحركات السياسية الفلسطينية في الأردن عن إطار الدولة وبدأت تهدد الحكم فيها، تمكن الأردن من إنهاء وجود المنظمات الفلسطينية في الأردن، فيما عُرفت بـ«أحداث أيلول الأسود» عام 1970.

لذا، فإنَّ الضعف في مؤسسات الدولة اللبنانية أتاح المجال للتدخل الخارجي في الشأن اللبناني، خصوصاً التدخل الإيراني عبر العلاقة الوثيقة بـ«حزب الله»، مما أدّى إلى تعقيد المشهد اللبناني وتفاقم الأزمات الداخلية، وجعل لبنان ساحة للصراعات الإقليمية والتجاذبات الدولية، ومنصة يستخدمها «حزب الله» لتمرير رسائل التهديد الإيرانية لزعزعة استقرار المنطقة والتدخّل في شؤونها.

الحل لن يكون إلا لبنانياً، ولبنان لن يكون أولوية إلا عند اللبنانيين أنفسهم. المجتمع الدولي والدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، حريصة على استقرار لبنان وسيادته وأمنه وازدهاره، وعودته إلى لعب دوره الطبيعي وحضوره الدبلوماسي والسياسي ضمن محيطه العربي، لكن دون مراجعة لبنانية حقيقية وإصلاحات جذرية في نظامه السياسي والدستوري، لن يكون قادراً على التغلب على هذه الأزمات وتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي المطلوب واسترداد الثقة؛ عربياً ودولياً.

* كاتب سعودي