فتحت تطورات الأحداث في السودان الباب مجدداً أمام الجدل القديم حول ضرورات التدخل الدولي في السودان، وهو جدل يتصاعد أحياناً وتنخفض وتيرته أحياناً أخرى، لكنه لم يختفِ تماماً من المشهد السوداني.
وقد ثار هذا الجدل مرة أخرى بسبب تطورات الحرب وانعكاساتها الكارثية على أوضاع السودانيين، خصوصاً مع محاولات «قوات الدعم السريع» توسيع دائرة الحرب عبر استهداف مدينة الفاشر، العاصمة التاريخية لدارفور، ثم محاولة استهداف مناطق سنار والنيل الأبيض خلال الأسبوع الماضي. وتعدّ المدينتان مأوى لمئات الآلاف من النازحين من مناطق مختلفة، حيث نزح الناس إلى الفاشر من ولايات دارفور المختلفة، وكذلك مدينة سنار التي لجأ إليها النازحون من مناطق الجزيرة المختلفة بعد سقوط مدني في يد «الدعم السريع». وقد فاقم الحصار الذي تفرضه «قوات الدعم السريع» على المدينتين من تدهور الأوضاع الإنسانية، ويزداد الوضع سوءاً مع عمليات القصف الأرضي والجوي، ومحاولات الاقتحام التي يروح ضحيتها المدنيون.
وقد دفعت الأوضاع الإنسانية الصعبة في مدينة الفاشر، وما قد يترتب على سقوطها من كارثة غير مسبوقة، مجلسَ الأمن الدولي لتخصيص جلسة لمناقشة أوضاعها وإصدار قرار يطالب بوقف القتال وانسحاب القوات العسكرية من محيط المدينة، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية. ورغم أن القتال قد خفّت وتيرته قليلاً بعد صد القوات المشتركة لهجوم «الدعم السريع»، فإن القصف اليومي لا يزال مستمرّاً، وقد خرجت المرافق الصحية جميعها عن العمل، وتسقط في كل يوم مجموعات من الضحايا المدنيين.
دعوات التدخل الدولي تصاعدت أيضاً بسبب تصريحات المبعوث الأميركي للسودان توم بيريلو، الذي كان يتحدث في البداية عن تدخل دولي للضغط على طرفَي الحرب؛ للوصول إلى اتفاق سلام، لكنه عاد قبل أيام وتحدّث عن إمكانية التفكير في خطة بديلة ربما تشمل «قوات أفريقية أو دولية لحفظ السلام».
فما إمكانية التدخل الدولي في السودان...؟
نبدأ بالقول إن مسألة التدخل الدولي ليست عملية سهلة أو بسيطة، لكنها عملية صعبة ومعقدة، والذاكرة السياسية ربما تحمل بعض التجارب الناجحة نسبياً في تواريخ سابقة، لكن الذاكرة نفسها محملة أيضاً بتجارب فاشلة وخيبات متعددة لم تسهم في تحقيق السلام، بل زادت الأوضاع تعقيداً، وهناك دول أسهمت في التدخلات في الصومال وأفغانستان والعراق وسوريا وغيرها، وليس لديها استعداد لتكرار التجربة. ومسألة التدخل الدولي بإرسال قوات، أياً كانت، لإرغام طرفَي الحرب على وقفها، واستخدام القوة ضدهما، أمر مستحيل وغير قابل للحدوث بشكل مطلق، وليست هناك أي فرصة لأن يأتي هذا الأمر، وبهذا الشكل، عبر مجلس الأمن الدولي لأسباب معروفة.
وفي الوقت نفسه لا توجد فرصة لتشكيل قوات من دول أخرى، سواء عبر حلف الناتو أو غيره، ولا حتى دول الاتحاد الأفريقي أو منظمة «الإيغاد»؛ لأن هذا الأمر سيعني توسيع دائرة الحرب، وربما فتح الباب لدخول مجموعات مقاتلة من دول أخرى وبخلفيات مختلفة، دينية أو إثنية أو بمطامع إقليمية، وهذا يعني تحويل البلاد ساحة حرب دولية.
كما أن دعوات فرض الوصاية المؤقتة ليس لها سند قانوني دولي في الوقت الحالي، ولن تجد إجماعاً في مجلس الأمن أيضاً وللأسباب المعروفة نفسها. وحتى دعوات التدخل الإنساني تواجه الصعوبات نفسها.
من الواضح أن التدخل الدولي لا يمكن له أن يحدث إلا عبر اتفاق لوقف إطلاق النار يكون سابقاً له، وهو سيكون هنا تدخلاً محدوداً للفصل بين القوات وربما حماية المناطق المدنية، ومراقبة وقف إطلاق النار. ومن الضروري التمهيد لذلك بزيادة الضغوط على طرفَي الحرب، وعلى الدول الداعمة لاستمرار الحرب التي تمد الطرفَين بالسلاح والمعدات والمال. هذه الحرب استمرت لأكثر من 15 شهراً، وهي فترة طويلة كافية لاستهلاك كل إمكانات الطرفَين وانعدام قدرتيهما على مواصلة القتال، لولا تواصُل الدعم الخارجي، وهذا جانب أساسي تستطيع القوى الدولية الراغبة في وقف الحرب أن تلعب فيه دوراً كبيراً، وتستخدم فيه المصالح المشتركة والعلاقات المتنوعة التي تجمعها مع الدول الداعمة.
حجم البشاعة في هذه الحرب وصل حداً لا يمكن السكوت عنه، فقد أصبح قتل الأسرى والمدنيين وذبحهم وإلقاء جثثهم في البحر أو تركها في العراء ممارسة يومية يسجلها أبطالها على السوشيال ميديا، ويتلقون تعليقات الإشادة والإعجاب، فلتتوقف الحرب التي تنهش كل يوم في إنسانيتنا وكرامتنا وأخلاقنا.