يقول مؤلف كتاب «الحقيقة الليبرالية المركزية» الراحل لورانس هاريسون، البروفسور في جامعة تافتس الأميركية، الثقافة هي السبب الأساسي الذي يدفع بعض الشعوب للتقدم وأخرى للتأخر والتراجع. الثقافة هي أم جميع الأفراد والجماعات والمؤسسات. يقول الكاتب بأنه من المريح على الخبراء إلقاء اللوم على الموانع الجغرافية والسياسات السيئة والمؤسسات الضعيفة لتبرير الخلل، ولكنهم في الواقع يتحاشون التطرق للأسباب الثقافية العميقة للنجاح والفشل، للفقر والثراء؛ لأنها تجرح الشعور وتثير الحساسيات. هو نفسه تعرّض للانتقادات القاسية لأنه يتحدث عن الثقافة كسبب رئيسي للتراجع واتُهم بالانحياز والعنصرية. هاريسون عرف أن الثقافة هي المشكلة الأساسية ليس فقط من خلال القراءة، ولكن عن طريق التجربة. هو نفسه عمل لسنوات في مشروع التنمية الدولية المخصص من قِبل الحكومة الأميركية لتنمية عدد من بلدان أميركا الجنوبية، ولكن النجاح صعب لأن التقدم في حاجة إلى ثقافة تدعمه.
لكن، ما العناصر الثقافية التي تدفع بعض الشعوب والأمم إلى الأمام أو تدفع بأخرى إلى الوراء؟ يذكر هاريسون في كتابه الكثير منها.
أولاً: التعاليم الدينية، كما يقول المؤلف من أقوى العناصر التي تدفع إلى التقدم إذا ما اتسمت بالعقلانية والموضوعية، ودعت إلى قيم الكد والعمل وجمع الثروة. هذا هو السبب تحديداً الذي جعل الدول البروتستانتية في أوروبا مثلاً أسرع في النهوض اقتصادياً وصناعياً من الدول الكاثوليكية.
الثقافة الكاثوليكية قاومت أفكار النجاح الشخصي، ودعت إلى الاهتمام أكثر بالعالم الآخر، والتقليل من قيمة الحياة والمال. هناك أيضاً بعض التعاليم الدينية التي تدعو صراحة إلى الخرافة واللاعقلانية، وتزرع هذه الشِفرة الأخلاقية بعقول متبعيها؛ ما يؤدي إلى إخراجهم من منطق العالم وكيفية الازدهار فيه. كلما زادت قوة الشعب أحب هذا العالم وسعى بشكل مستمر لتطوير ذاته ودفعه إلى الأمام، وهذا على العكس من الشعوب الأخرى التي تعلن الاستقالة منه؛ لأنها لا تجد فيه أي إحساس بالنجاح والتفوق. تتقاسم هاييتي وجمهورية الدومينيكان جزيرة واحدة، ولكن الأولى غارقة في الفقر والثانية مزدهرة وناجحة. السبب الأساسي اختلاف ثقافي بين البلدين الجارين، وخصوصاً في التعاليم الدينية. يعتنق سكان هايتي الفودو، حيث تلعب الخرافات دوراً جوهرياً تجعل الناس يشعرون بأن قوى خارقة تسيطر على مصائرهم.
ثانياً: النظرة للمستقبل، هي من أهم العناصر الثقافية التي تؤدي أيضاً إلى ثراء شعوب وفقر شعوب أخرى. الثقافات المتطورة تركز بشكل أساسي على المستقبل؛ لأنها تسعى دائماً للتغيير، والتقدم، وإثبات أهميتها، وقيمتها. هناك فكرة محورية تشكل طريقة تفكيرها، وهي: العصر الذهبي للإنسان هو في المستقبل وليس الماضي. هذا على العكس من الثقافات التي تسكنها فكرة أن الماضي أفضل من الحاضر وبالتأكيد أفضل من المستقبل الموحش. هذه الفكرة الأساسية تحركها فكرة التثبيط التي تمنع الفرد من أن يصمم بشكل لا ينكسر على خلق مستقبل باهر لنفسه؛ لأنه محاط بكل المحبطات الممكنة.
ثالثاً: عدم احترام الحقائق العلمية، أيضاً من الأسباب الثقافية التي تحرف مسار المجتمعات. إنه يجهض الأخذ بأسباب التقدم والمنافسة، ويُدخل الشعوب في سلسلة من الأوهام والخزعبلات. كما أنه يمثل العائق الكبير أمام التحديث الذي يعتمد بشكل أساسي على تقدير وتبني حقائق العلم.
رابعاً: القيم الأخلاقية، مثل الثقة والصدق والتعاون هي أيضاً من أهم الأسباب التي دفعت دولاً مثل السويد والنرويج والدنمارك لتحتل قائمة الدول الأكثر نجاحاً (هل سألنا أنفسنا لماذا الدول الإسكندنافية تتربع على قائمة الدول الأكثر تقدماً؟ الثقافة بالتأكيد تلعب دوراً محورياً)، على العكس من الثقافات التي تسيطر عليها أفكار انعدام الثقة والتعاون.
خامساً: التعليم، أيضاً من أهم العناصر التي تشكل الثقافة وتدفع للتحديث أو العكس. الدول التي تمنح مكانة عالية لتعليم الجنسين هي الأكثر قدرة على التطور. في عام 1905 وبينما كانت نسبة الأمية عالية في عدد كبير من الدول، كان 90 في المائة من الصغار اليابانيين الأولاد والفتيات يذهبون إلى المدارس. السويد أول من حاربت الأمية في التاريخ، ولم يبقَ منها سوى 20 في المائة عام 1680. المقصود هنا التعليم الحقيقي المحرّض على التفكير واكتساب المهارات، وليس التعليم الذي يرسخ أسوأ ما في الثقافة من انحياز وأخطاء.
سادساً: قيمة العمل من أجل تحقيق حياة جيدة، هي أيضاً من أهم العناصر الإيجابية في الثقافة. هناك أفكار عميقة في الكثير من الثقافات التي تعتبر تحقيق الحياة الجيدة لا يتحقق بالعمل، ولكن من خلال القضايا الروحانية. العمل هو للطبقات السفلية في المجتمع وليس للنخبة. يقول الكاتب إن الدول الكونفوشيوسية كانت تعتبر التأمل أهم من العمل، لكن هذه التعاليم تغيرت مع اليابان في القرن التاسع عشر ومع كوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ. تم إعلاء قيمة العمل في الثقافة، وساهم ذلك، بين أسباب أخرى، بنجاح هذه الدول اقتصادياً.
سابعاً: الابتكار والتجديد هما ماكينة التنمية والتطور. من دون عقلية الابتكار والخلق، من الصعب على أي شعب تحديث نفسه وتطوير أفكاره. فكرة التحديث أيضاً مرتبطة بفكرة المغامرة. الأفكار المغامرة والجريئة تعني أن الشخص يستطيع أن يخلق لنفسه مصيراً جديداً معتمداً على معرفته. ولكن في الثقافات التي تعتمد على فكرة أن مصيرها معروف، فإن فكرة الخلق والابتكار تظل ضعيفة أمام قوى أكبر من الشخص نفسه. ولهذا تضعف قيمة المنافسة القوية التي تُعدّ عاملاً أساسياً للنهوض. يقول الكاتب إن المنافسة مسألة مركزية في النجاح والابتكار للسياسي والمثقف والعامل في كل مجال. في المقابل، ينتشر الحسد وتسود الدعوات الطوباوية غير الواقعية في المجتمعات الراكدة التي تحارب التنافس والتحديث. تكون الفكرة السائدة هي: الجميع يخسر! في تلك الثقافات تُنتقد قيم المنافسة وتُمتدح قيم التعاون. ولكن التجربة أثبتت أن قيم التعاون لا تسود فيها. بل إن المنافسة، كما يقول المؤلف: «هي أحد أشكال التعاون لأن المتنافسين يستفيدون من خلال التعاون حتى يظهروا أفضل ما عندهم، كما يحدث في الرياضة مثلاً».
ثامناً: الانفتاح عنصر أساسي في نجاح المجتمعات كما حدث في الحضارة الإسلامية بعصرها الذهبي التي انفتحت على ثقافات متعددة، وفي عصر الميجي في اليابان عندما تم الانفتاح على الغرب في التعليم والتقنية والصناعة وعدد كبير من الحقول المختلفة. وضعُ الأشخاص المؤهلين في المكان الملائم هو من أبرز العوامل التي تحسّن من أداء الشركات أو المؤسسات الحكومية. احترام القانون أيضاً مرتبط بالقيم الأخلاقية السائدة.
يعدد المؤلف عناصر كثيرة تحدد لماذا تزدهر بعض الشعوب وتخفق أخرى. التعارض بين الفردية والجماعية، تخصيص الثقة بحدود العائلة والأصدقاء، والاشتباه بالغرباء، سيادة أفكار التسلط والهرمية والانغلاق وغياب الحرية الفكرية.
الثقافة ليست جينية، بل يمكن إصلاحها وتطويرها، ولكن تجاهلها واعتبارها مسألة ثانوية أو غير مهمة، سيجعل شعوباً كثيرة ترتكب الأخطاء نفسها عاماً تلو آخر، وقرناً بعد قرن. الاعتقاد بأنه يوجد أشخاص محددون أو أعداء متربصون هم السبب في التعثر، هو مجرد عذر مكرر، وهروب من مواجهة مرآة الثقافة. يقول الكاتب إن التغيير لا بد أن يأتي من داخل الثقافة نفسها؛ لأنه لا يمكن فرض شيء من خارجها. إذا لم يكن هناك استعداد ورغبة داخلية للتغيير فلن تستطيع أقوى الدول تغيير ثقافة بلد ما مهما صغر حجمه. وقد رأينا ذلك في أفغانستان والعراق وغيرهما من البلدان. الدول لا تتغير إلا بتغير ثقافتها، وهذا ربما أكثر تفسير منطقي لماذا نجحت سنغافورة وكوريا الجنوبية والدنمارك وفشل غيرها. هم تخلوا عن تعليق الفشل على أسباب خارجية ونظروا إلى الداخل بلا حرج وحساسية وغيّروا ثقافتهم.