سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

شبنغلر وابن خلدون

استمع إلى المقالة

ترتفع أصوات متشائمة هذه الأيام، تشبه تلك التي برزت بعد الحرب العالمية الأولى، وكان بينهم الفيلسوف الألماني أوزوالد شبنغلر صاحب الكتاب الشهير «انحدار الغرب»، أصدره عام 1918، محذراً من نهاية وخيمة بسبب الصراعات البينية الدموية. يومها كتب كثيرون عن النزع الأخير لحضارة بلغت قمتها وبدأت بالسقوط. لكن أميركا بعد الحرب الثانية هبّت لنجدة أوروبا، ونجحت في أن تمدها بالأوكسجين والمال والعدة، لتستعيد قوتها، وتخوضان معاً الحرب الباردة، وتلزمان روسيا بالرضوخ لـ«بيسترويكا»، رآها الروس، بمرور الوقت، مهينة.

سقط جدار برلين عام 1989، وبدأت مرحلة جديدة، صار العدو فيها إسلامياً، لكن الخطر الحقيقي جاء من الاهتزازات الاقتصادية المتوالية، التي سدّت فجواتها بأساليب ترقيعية. سلاح العولمة الذي شهره الغرب شركات كبرى عابرة للقارات، جاء بنتائج عكسية. فقد استفادت منه الصين، ودول جوارها الآسيوية، وسحب بساط الصناعات من الغرب.

ثلاثة عناصر قام عليها الازدهار الغربي بدأت بالتآكل: السطوة الأميركية المتفردة، انتقال مركز التصنيع من الغرب إلى آسيا، وذبول ديمقراطيات باتت عاجزة عن تجديد نفسها، وتفرز متطرفين شعبويين، بدل أن تكون سبيلاً لتصحيح معايب السلطة.

الطريقة المرتبكة التي واجهت بها أوروبا وأميركا وباء «كوفيد»، وانكشاف مجتمعات لا تستطيع توفير أقنعة بسيطة لمواطنيها أو أدوية بدائية، وكوارث المسنين الذين تركوا ليلقوا حتفهم في دور العجزة، أثارت الإحساس بالخيبة ممن افترض بهم القدرة النموذجية على المواجهة. ثم جاءت الحرب الروسية - الأوكرانية، وصعود العنصرية الأوروبية، والمبالغة في تصوير العدو الروسي غولاً يجدر الانقضاض عليه، جعل العالم في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ينقسم أمام قرار تعليق عضوية روسيا بحيث، صوتت 93 دولة بالموافقة من أصل 193، بينما توزع الآخرون بين معارضين، وممتنعين وغائبين. كل ذلك أحدث صدمة غير متوقعة في غرب لا يزال يتحدث عن سطوته ورفعته الأخلاقية.

وزيرة الخارجية الباكستانية السابقة، هينا رباني خار، ذكّرت يومها أن الولايات المتحدة انتهكت القانون الدولي بغزو العراق عام 2003، ولفقت الأكاذيب، لماذا لم تُفرض عقوبات ضدها، بينما تفرض على روسيا؟

بمرور الوقت، صمدت روسيا، لم تفقد قدراتها الاقتصادية رغم العقوبات الرهيبة، وإغلاق صنابير أنابيب غاز «نورد ستريم» التي تنقل الغاز منها إلى ألمانيا، وتزويد أوكرانيا بكل سلاح فتّاك، عدا المرتزقة والمعلومات الاستخبارية والمدربين، والزيارات المكوكية. مع ذلك توشك أوكرانيا أن تخسر الحرب.

وتشاء الظروف أن يتورط الغرب في أسوأ مجزرة عرفها العصر الحديث، منذ الحرب العالمية الثانية، حين اصطف مع إسرائيل، وزودتها أميركا بأعتى الأسلحة وأكثرها فتكاً، لتستخدمها في ارتكاب أبشع الجرائم الجماعية، بحق عزّل غالبيتهم أطفال ونساء.

جلّ ما تفعله أميركا وحلفاؤها الأوروبيون بعد أكثر من 33 ألف قتيل، أنهم يصرحون برفضهم اجتياح رفح، البقعة المكتظة بالبؤساء، ويتكدس فيها مليونا لاجئ في خيام بالكاد يجدون ما يأكلون ويشربون، بينما إسرائيل شرعت فعلياً في قصفهم واجتياحهم. يزداد المشهد الأميركي ضعفاً وهشاشة حين تتوسل إيران من ناحية أن يكون ردها على إسرائيل محدوداً، ثم تترجى إسرائيل من جهة أخرى أن تفعل الشيء نفسه.

أي عجز وصلت إليه الولايات المتحدة، حين تزود إسرائيل بالأسلحة ومليارات الدولارات، ولا تستطيع أن تفرض عليها قراراً صغيراً. توازنات داخلية، مصالح انتخابية، اللوبي الصهيوني، لا يهم، فأميركا تبدو هزيلة، حائرة، منقسمة، ومرتبكة، ولم تعد قادرة على إنقاذ أوروبا كما فعلت قبل مائة عام، بل إن ترمب إن فاز، يفضل التخلص منها.

شبح الأفول يبدو للغربيين ممكناً، لهذا فإن كتاب أوزوالد شبنغلر «انحدار الغرب» الذي كان مفقوداً بسبب عدم الاهتمام به، تُعاد قراءته ومناقشته، وكأنه يحمل نبوءة ستترجم، وتصبح كل كلمة كتبها بمثابة كشف مسبق.

وصفت الباحثة إيمي بالوغ الكتاب بأنه «مذهل»؛ لأنه «يساعدنا على فهم السبب وراء انتقاد الكثير من الأشخاص في أجزاء أخرى من العالم لأسلوب الحياة الغربي وتشككهم فيه ورفضهم له بكل إخلاص».

وللتبسيط، فإن شبنغلر على نهج ابن خلدون، يؤمن أن الحضارات تبلغ قمتها ثم تهرم وتشيخ، وربما أن مقتل الحضارة الغربية عنده هو في روحها «الفاوستية»، وفي عطشها الشديد للتجاوز الدائم. نرى ذلك في حروبها الطموحة، واكتشافاتها الكبيرة، واختراعاتها المتعددة، وابتكاراتها في السلاح والعمارة والمواصلات، وغزو الفضاء.

لكنها رغم ذلك، بدأت تصل إلى طريق مسدود، فقد انقطعت الحواضر الكبرى عن الأرياف، وصار سكانها متحجرين، كل منهم يشعر وكأنه في مكان لا ينتمي إليه ولا يشبهه. لذلك فإن الفنان أو الفيلسوف لم يعد قادراً على خلق أي شيء أصيل، بل يقوم فقط بالبناء وإعادة التركيب أو التفسير، حيث يفتقر الإنسان إلى القوة الإبداعية الحقيقية. عقله يشبه الأرض العقيمة التي يعيش عليها.

لا تتم فقط استعادة مؤلف شبنغلر ونظريته الفاوستية بعد مائة سنة على صدوره، بل يتم الاهتمام بشكل استثنائي بالكتب الجديدة التي تنذر بالنهاية مثل «من يسوع إلى بن لادن، حياة الغرب وموته» الذي أصدره قبل سنوات الفيلسوف ميشال أونفري، وكتب أخرى أشهرها: «هزيمة الغرب» للأنثروبولوجي إيمانويل تود الذي يؤمن بـ«أن الغرب سيلحق الهزيمة بنفسه». فهو مخلخل من الداخل، يعاني من تراجع في الإنجاب، والاقتصاد، والناتج المحلي، ويتخلى عن القيم البروتستانتية الدينية في المعرفة. هي مجتمعات يصفها بأنها «صفر دين» منغمسة بـ«العدمية»، مما يؤدي إلى «التعطش للتدمير»، و«إنكار الواقع».

تعددت الأسباب والنظريات والنتيجة واحدة، مخاوف غربية داخلية من الانهيار، وترقب لعالم يعيش تحولات كبرى، لا يمكن أن تحدث من دون أضرار جسيمة.