لأول مرة في تاريخه، نشر مجلسُ التعاون رؤيتَه للأمن الإقليمي خلال فعالية عُقدت في مقر المجلس في الرياض وحضرها مئاتٌ من المسؤولين والخبراء من دول المجلس وبقية دول العالم. وقد كانت رؤية المجلس منذ تأسيسه في 1981 تنعكس في البيانات الختامية للمجلس الأعلى التي تُنشر عقب اجتماعات القادة السنوية، والبيانات الصادرة عن المجلس الوزاري، حين يجتمع وزراء خارجية دول المجلس كل ثلاثة أشهر.
وخلال الفترة الماضية ظهرت محاولات متعددة من جهات خارجية لوضع رؤية لأمن الخليج، ولكنها غالباً ما تجاوزت الدور المركزي لمجلس التعاون في الحفاظ على الأمن الإقليمي، وقللت من وزن الإمكانات الذاتية لدول المجلس.
بالإضافة إلى رؤية مجلس التعاون التي أُعلنت يوم الخميس 28 مارس (آذار)، هناك إطار متفق عليه بين دول المجلس للأمن الإقليمي، وجدول مفصَّل بالتهديدات والتحديات التي تواجه المنطقة، وتحديد ما يمكن للمجلس أن يقوم به حيالها. وهي وثائق داخلية يعمل عليها عدد من الأجهزة واللجان في أفرع المجلس السياسية والعسكرية والأمنية تقوم بمتابعة ورصد المستجدات وتسعى إلى التوصل إلى مواقف موحدة للتعامل معها.
وتمثل الرؤية الجديدة تحديثاً ملموساً لمواقف مجلس التعاون في ضوء عدد من المستجدات الإقليمية والدولية المهمة. وتنطلق من مركزية منظومة مجلس التعاون لأي إطار للأمن الإقليمي، ومن مبدأ الأمن الجماعي –أي إن أمن دول المجلس كلٌّ لا يتجزأ، كما نصَّت عليه اتفاقية الدفاع المشترك التي أُقرَّت عام 2000، بأن أي اعتداء على أي دولة عضو هو اعتداء عليها جميعاً، وأي تهديد لإحداها هو تهديد لكل دول المجلس، ومن مبدأ الردع، إذ تقوم دول المجلس بتعزيز قدراتها الدفاعية والأمنية بصفة مستمرة، لدرء الأخطار وردع مصادر التهديد.
كما تلعب دول المجلس دوراً محورياً، عندما يُطلب منها ذلك، في دعم أمن دول الجوار واستقرارها السياسي والاقتصادي. وهي في الوقت ذاته تؤمن بالنظام الدولي متعدد الأطراف، وتسهم في تحقيق الأمن والسلم الدوليين وفي استقرار الاقتصاد العالمي.
أما المبادئ التي ترتكز عليها الرؤية فهي مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وحُسن الجوار، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها، وحل الخلافات بالطرق السياسية.
فتدعو الرؤية إلى البناء على دور دول المجلس المتنامي وبذل جهود قيادية في الدبلوماسية والمفاوضات والوساطة وبذل المساعي الحميدة لحل الخلافات الإقليمية.
والهدف الرئيسي للرؤية الجديدة هو الحفاظ على أمن واستقرار دول المجلس ورخاء شعوبها، ولكن ذلك يشمل أيضاً المساهمة بشكل ملموس في استتباب الأمن والسلام الإقليمي والدولي. وهذا يعني معالجة التحديات الإقليمية، وتحويلها إلى فرص للتنمية والازدهار، وصناعة المستقبل من خلال تسوية الخلافات بالطرق السياسية، وإيجاد حلول توافقية تضمن احترم المصالح المشروعة لجميع الأطراف، والنأي عن الاستقطاب، لمعالجة مصادر التهديد أينما كان مصدرها، ويدخل في ذلك ضمان أمن إمدادات الطاقة واستقرار أسواق النفط، وتعزيز الأمن البحري وطرق التجارة.
وتُبرز الرؤية أهمية تعظيم الفرص الاستثمارية للحفاظ على مسيرة التنمية والرخاء لدول المجلس، التي شملت رفع مستوى الاقتصاد الخليجي من أقل من 200 مليار دولار إلى أكثر من تريليوني دولار خلال جيل واحد، تم خلاله أيضاً نقل مؤشرات التنمية الاجتماعية والصحية إلى أعلى المراكز في التصنيفات الدولية. وتدعو الرؤية إلى الحفاظ على هذه المستويات مع التصدي الجماعي لتحديات المناخ وتحقيق الأمن البيئي وأهداف التنمية المستدامة في الوقت نفسه.
وتتطرق الرؤية إلى عدد من المواضيع بالتفصيل، بما يلقي ضوءاً على مواقف وسياسات منظومة المجلس، ابتداءً من أولوية القضية الفلسطينية لتحقيق الأمن الإقليمي، وهو ما أكدته الحرب على غزة. فتدعو الرؤية إلى تفعيل مبادرة السلام العربية لإيجاد حل عادل وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والانسحاب إلى حدود 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان حقوق اللاجئين، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة.
وتؤكد الرؤية حرص المجلس على منظومة عدم الانتشار، وحق الدول في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، مع الالتزام بمتطلبات الأمن النووي والسلامة النووية. كما تدعو إلى تعزيز مستويات الأمن السيبراني، الذي أصبح مهدداً أكثر من أي وقت مضى.
وتدعو إلى العمل الجماعي لمحاربة الإرهاب والتطرف، وتجريم الجماعات الإرهابية، بصرف النظر عن انتماءاتها الحزبية أو الدينية أو ارتباطاتها بمؤسسات الدولة، والامتناع عن دعم الميليشيات الإرهابية والجماعات الطائفية وعن تمويلها وتسليحها، بما في ذلك تزويدها بالصواريخ والطائرات المُسيّرة.
وتدعو الرؤية إلى جهود إضافية لتأمين استقرار أسواق الطاقة بما يخدم مصالح الدول المصدِّرة والمستهلكة، ويجنّب العالم تبعات تقلبات الأسواق وانقطاعات سلاسل الإمداد، ويبني جسور التعاون بمنأى عن تسييس هذه التحديات.
وتعكس الرؤية الدور المتنامي لدول المجلس في معالجة تحديات التغير المناخي، بالدعوة إلى إيجاد حلول واقعية متوازنة، وتطوير استراتيجيات طويلة المدى تساعد على تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية واتفاقية باريس، وفي الوقت نفسه تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وتدعو لذلك إلى تنفيذ نهج الاقتصاد الدائري للكربون بوصفه إطاراً متكاملاً لمعالجة الاحتباس الحراري والمحافظة على البيئة الطبيعية ورفع مستوى الغطاء النباتي، بزيادة الاعتماد على التقنيات النظيفة لجميع مصادر الطاقة.
وتدعو الرؤية إلى مواجهة تحديات الأمن المائي والغذائي على المستويين الإقليمي والدولي، سواء كانت ناتجة عن التغيرات البيئية أو الحروب والصراعات، والعمل الجماعي للحفاظ على سلاسل إمداد الغذاء واستقرار أسعارها.
اعتمد مجلس التعاون منذ قيامه على تعزيز الإمكانات الجماعية لدوله، سواء كان ذلك في المجال السياسي أو الاقتصادي أو العسكري أو الأمني. وتزيد الرؤية الجديدة على ذلك تأكيد أهمية بناء شراكات استراتيجية فاعلة ومتنوعة، لتحقيق المصالح الاستراتيجية المشتركة، مثل الأمن البحري، وبذل جهود مشتركة أكثر فاعلية، وأكثر تكاملاً، للحفاظ على الأمن والسلام والاستقرار، وهي معطيات ضرورية لمعالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وتحقيق مستهدفات التنمية.
وتدعو الرؤية إلى تكثيف الدور الريادي الفاعل لدول المجلس لتجنيب المنطقة تداعيات الحروب ومعالجة الأزمات، وتأسيس منصات جديدة للوساطة والمفاوضات وتجسير الخلافات. وحين يقدم مجلس التعاون رؤيته الجماعية لتعزيز أمن المنطقة، فإنه يسهم بشكل فعال في الجهود المبذولة لتحقيق الأمن العربي الشامل.