د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

تفتيت الفسيفساء الليبية مستحيل

استمع إلى المقالة

خاطب أخاك بما يحبُّ؛ فقل: الأمازيغي أو الرجل النبيل كما تعني بالعربية، ولا تقل الاسم الاستعلائي «البربري» الذي كان يطلقه الرومان على مَن هم خارج سيطرتهم، أو من يتمرَّد على سلطانهم أو استعصى على سلطتهم ورفض الخنوع لهم في شمال أفريقيا والمغرب العربي، أو تصوّرهم أشراراً باللثام خجلاً من هزائمَ سابقة، كما زعم البعضُ حول الطوارق.

فـ«الأمازغن» في بلدان المغرب العربي مكوَّنٌ من مكوناتٍ فسيفسائية متنوعة، وليبيا ليست استثناء عن هذه الفسيفساء والتنوع الإثني، وإن كان وجودهم اليوم في جماعات صغيرة محدودة بالجبل الغربي تسعى إلى التعايش السلمي في معظمها، رغم أنَّ بعضَ النخبِ تطلق نعراتٍ إثنية وانفصالية من حين لآخر لا تخدم حتى مستقبل أجيالهم.

ففي ليبيا، نال الأمازيغ حقوقاً كثيرة، ومنها قرار المؤتمر الوطني (البرلمان) عام 2013؛ بإعلان القانون رقم 18 القاضي بتعليم اللغة الأمازيغية في المدارسِ الليبية، على أن تتحمَّل الدولة مصاريفَ تدريسِها، كما أنَّ الدستورَ الليبي أقرَّ أنَّ اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، مع ضمان الحقوق اللغوية والثقافية للأمازيغ والتبو والطوارق وكلِّ مكونات المجتمع المدني، مما يعنى أنَّ أمازيغَ ليبيا لا يعانون من أي تهميش أو إقصاء.

دعوات الانفصال واجتزاء أراضي ليبيا وتكوين دولة في جغرافيا تفتقر حتى للماء، ولا غاز ولا نفط بها، لغتها الأمازيغية، وعَلَمها مكوَّن من اللون الأحمر والأخضر والأصفر، أصبحت لغة بعض «النخب» الأمازيغية مدفوعة من الخارج بأجندة انفصالية، ليس آخرها الاعتداء على معبر رأس إجْدِير الحدودي الذي تستخدمه ميليشيات أمازيغية للتهريب، مما اضطر السلطات التونسية لإغلاق المعبر، بعد فقدان سلطة طرابلس السيطرة عليه وإنزال العلم الليبي ورفع الراية الأمازيغية، في خطوة لا تشجع على التعايش ضمن فسيفساء وطنية واحدة. وتنذر بالويل.

ولتتحقق المواطنة الكاملة للجميع عرباً وأمازيغَ، فلا بد من التحرر من أي تعصبٍ قومي أو إثني أو قَبَلي أو حزبي والتخلص من الشنفونية له، والابتعاد عن منهج التصادم والتضاد، ليصبح المعيار الحقيقي للاندماج الكامل هو المساواة في المواطنة، ولهذا يصبح الضامنُ هو تضمينَ حقِّ المواطنة الكامل لجميع أبناء الوطن في الدستور دون النظر إليهم كأقلية تسكن الوطن فيه أو أخرى يُنظر إليها بشيء آخر، وهذا عندما تطالب بعض النخب الأمازيغية بحقوق خاصة، وترفع راية هي في الأصل شعار لوطن إثني اسمه «تامزغاء» أو «أرض» الأمازيغ، كما يتوهَّم البعضُ، وعدّهم للعرب «غزاةً» لا فاتحين، بدلاً من العمل على التعايش والعيش كشركاء فيه، فهذه أرض تناوب على سكنها واستوطنها الكثيرون، فلو كانت بالأسبقية ما وصلت إليك.

ما حدث من اعتداء على معبر رأس إجدير الحدودي الليبي مع تونس من جماعات مسلحة تحمل أعلاماً «أمازغية» تنتمي لبعض مدن الجبل الغربي الليبي، وسيطرتها على المعبر ورفعها أعلامها، وإنزالها علم الاستقلال الليبي الذي أجمعت عليه الأمة الليبية الكريمة من على المعبر، أمر ينذر بعواقب وخيمة، مما اضطر السلطات الليبية لإعلان حالة القوة القاهرة وإغلاق المعبر، وكذلك فعلت السلطات التونسية.

الحديث بمفهوم خصخصة الوطن، والنظر فقط إليه من خلال جغرافيا «تامزغاء»، الذي هو لفظ مستحدث لا جذر لغوياً له حتى في اللهجات الأمازيغية، رغم رسمه بخط التيفيناغ خطاب آيديولوجي مسيَّسٌ مشحونٌ بلغة إثنية، مفادها أنَّ الأمازيغي هو «صاحب» الأرض (بعدد سكان لا يتجاوز 5 في المائة من مجمل السكان)، والبقية «دخلاء غزاة»، بل تطرف بعضهم بالتشكيك في وجود حضارة غيرهم؛ التشكيك في انتماء الآخرين للوطن والزعم بامتلاك الأرض وتاريخها، واعتقاد بعض النخب بأنَّها جزءٌ من الجنس الآري، والاستقواء بالخارج. هذا النهج والمعتقد الخاطئ والمغالطات التاريخية لا تخدم منطقَ التعايش في وطن للجميع، فجغرافية ليبيا زمن هيرودوت ليست جغرافيا ليبيا الحالية بعد «سايكس بيكو».

محاولات تقسيم ليبيا سبقكم إليها الكثيرون من حاقد وحاسد وخبيث، بدءاً من مشروع «بيفن سفورزا»؛ مشروع الوصاية الذي قدمه وزير خارجية إيطاليا، كارلو سفورزا، بالاتفاق مع إرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا، الذي بموجبه تُقسَّم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم تحت وصاية دولية، زمن استقلال ليبيا، وليس آخرها مخطط سيباستيان غوركا (مستشار سابق للرئيس ترمب). وفي النهاية انتصرت وحدة ليبيا بفضل شجاعة الآباء المؤسسين، ولأنَّها حقيقة أمة واحدة. ولكن في ظل هذه الازدواجية عند البعض، يصعب تحقيق الاندماج للتعايش، وعلى رأسه التحرر من العباءة الإثنية، والتعايش ضمن وطن خالص لمواطنيه، بروح التآخي والتعايش من قبل الجميع، عرباً وأمازيغ وتبو، بدلاً من محاكاة الوهم والجري خلف السراب. تغيير الديموغرافيا في ليبيا مستحيل، ولا يستطيع أحد أن يغيرها مهما أوتي من قوة وجبروت.

ليبيا لن تكون إلا فسيفساء واحدة لا تقبل القسمة أو التفتيت إلى دويلات، رغم الكثرة العاربة.