كان لعلم الإدارة فضل على سائر البشر، إذ رفع إنتاجيتهم، وجود صناعاتهم، وأسهم في تحسن إدارتهم لمنظماتهم على نحو أنشأ كيانات عملاقة أضحت تنافس مداخيلها ميزانيات بلدان بأسرها. يصعب تحديد من بدأ الإدارة، لكن شواهد عجائب ما أنتجته البشرية كالأهرامات التي ما زالت غامضة، وحدائق بابل المعلقة، وسور الصين العظيم وغيرها، مما يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الإنسان توصل إلى اجتهادات إدارية ساهمت في بلوغه مرامه وبديع صنعه.
في عام 1776 صدر كتاب شهير بعنوان ثروة الأمم، وذلك في بواكير الثورة الصناعية، نادى فيه آدم سميث بتقسيم العمل، والمنافسة الحرة، وأن السعي للمصلحة الشخصية يفيد المجتمع ويثريه. ومع بزوغ فجر الثورة الصناعية في بريطانيا عام 1760 بظهور المحرك البخاري دعت الحاجة إلى وجود نظام إداري فعال يسيطر على اتساع رقعة المصانع عالمياً وأعداد العاملين فيها. كانت الآلات بحاجة إلى أنظمة تحسن من آلية الإنتاج وغيرها. تلك كانت طلائع الحقبة التاريخية في الإدارة.
بعدها انبثق فجر الحقبة الكلاسيكية وهي عندما نجح العلماء في إدخال العلوم في الإدارة، تبعتها الإدارة العامة. ما حدث باختصار أن البشرية كانت على موعد مع العالم فريدرك تايلر «الأب الروحي للإدارة العلمية» الذي أطلق عام 1911 كتابه مبادئ علم الإدارة، والذي استخدم فيها للمرة الأولى «أفضل طريقة» (علمية) لإنجاز المهام، بدلاً من الطرق الاجتهادية التقليدية. منها مثلاً وضع الشخص المناسب في المكان المناسب مع الأدوات والمعدات الأنسب. باختصار أدخل إلى عالم الإدارة «الطريقة الموحدة» standardized method لإنجاز العمل. ويدعم ذلك نظام حوافز مالية للعاملين.
بعبارة أخرى يتم انتقاء العامل بعناية ثم يُدرب، ويُعلم، ويُطور، كل ذلك وفق معايير علمية.
هذا الكلام يبدو بديهياً في عصرنا لكنه لم يكن كذلك سابقاً في عصر بدائي كان الناس يتنقلون فيه عبر البهائم وعربات الجر التقليدية. فكانت المعامل تقوم على أكتاف ثلة من المتحمسين أو فرد محوري يختاره المالك بطريقة اجتهادية، فإذا ما غاب أسقط في يد المالك. ولذلك طرح تايلور مبادئه لنهضة الإدارة.
وربما كانت النقلة النوعية فيما قدمه تايلور هي مبدأ تقسيم العمل، فلم يعد يستأثر عامل بكمية عمل تفوق أقرانه مهما كانت الدواعي، فلا بد من تقسيم العمل بعدالة بين العمال والإدارة. فكرة المدير الذي يأمر وينهى ويزجر من دون أدوار حقيقية بدأت تتلاشى تدريجياً مع هذه الحقبة. فهناك مسؤوليات لا يقوى عليها العامل تكون من نصيب الإدارة والعكس صحيح. وروعة ما جاء به من مبادئ أنها تنطبق على كل المنظمات.
لقد أثبت لنا أن تقسيم العمل يرفع إنتاجية العامل بشكل مذهل، لأن انكبابه على صنعة واحدة أو مهام محددة يدفعه إلى التألق وسرعة الإنجاز، وهو ما شهدته خطوط الإنتاج ومنها عالم السيارة. مثل فكرة الخباز الماهر والسريع. كلنا نعرف ذلك منذ الأزل، لكن تلك المفاهيم لم تدخل إلى بيئات العمل آنذاك. فتايلور هو الذي قال إن «المسؤولية» authority حق أصيل للمدير ويجب أن تطاع أوامره وتحترم. وهو الذي نادى بضرورة تطبيق وحدة الأمر. فلا يجب أن يكون للموظف مديران بأي حال من الأحوال. وهو الذي قدم للمرة الأولى «وحدة التوجه» unity of direction، وهو أننا حتى نسير على هدى لا بد أن تجمعنا كمديرين وعاملين خطة مؤسسية واحدة تأخذنا باتجاه واحد.
وبالنسبة للماديات، قال إن منح الموظفين تعويضات مالية ليس منّة أو مزاجية من رب العمل، بل لا بد أن تكون عادلة ومجزية. ورغم أن المجتمعات كانت بدائية وصغيرة فإنه نادى بأمر ما زلنا نمارسه، وهو روح الترويج لروح الفريق الواحد، لأنها تبني تناغماً وتظافراً داخل المنظمات. ولاحظ تايلور أن من أكبر التحديات التي تواجه المسؤولين في العمل الغياب المفاجئ لعناصر منتجة، إما لاستقالة أو مرض، فنادى باستقرار مدة العاملين في الوظائف والإحلال، stability of tenure of personnel فلا بد من وجود خطة لتوظيف بدلاء لكل موظف أو مدير يُشْغَر منصبه.
بفضل حقبة تايلور العلمية صار في مقدورنا صناعة وجبات سريعة في غضون دقيقتين كما يفعل ماكدونالدز وغيره، لأن كل عملية ومهمة صارت محسوبة بدقة متناهية. وصار هدير خطوط الإنتاج لا يتوقف على مدار الساعة بدخول 14 مبدأ جديداً في بيئات العمل والمصانع، لتبدأ رحلة التغيير الإداري الشامل. وللحديث بقية.