عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

بريطانيا وقضية التعاطف الشعبي

استمع إلى المقالة

لا يكاد يختلف اثنان في معظم أنحاء العالم على تعاطفهم مع المدنيين في فلسطين الجغرافية، أو على ضرورة إيجاد حل سريع للوضع المأساوي لسكان غزة، والتوصل لتسوية سلمية، كمشاعر إنسانية عامة.

بريطانيا ليست استثناءً من تنامي شعور التعاطف، الذي اتخذ، لأربعة أشهر، شكل مظاهرات متكررة أثارت في الأسابيع الأخيرة انقسامات حادة، تركت أثرها في مشاهد غير مسبوقة في أم البرلمانات، في وستمنستر (راجع عدد الأحد الماضي من «الشرق الأوسط»).

لماذا اخترنا العنوان؟ الموجه لمحبي السلام والساعين لحل عادل لجميع الأطراف، وخاصة منظمات الغوث والمعونات الإنسانية.

متابعتي لكثير من الحركات الاحتجاجية أو الداعية لأهداف إنسانية، تستخلص دروساً مهمة (وأركز هنا على بريطانيا، موطني لأكثر من ستة عقود متابعتي فيها بدأت مع مسيرات «حركة نزع الأسلحة النووية» التي انطلقت في نهاية الخمسينات).

في كثير من الأحوال الحركة بدأتها نواة من الأشخاص حركتهم إنسانيتهم بدوافع نبيلة، ولاقت تأييد جميع الأطياف بما فيهم الكنيسة الرسمية ورجال معظم الأديان والصحافة.

النواة، النبيلة الأهداف، كثيراً ما تجد نفسها، «تاهت في الزحمة».

المقصود بالازدحام هنا، تضخم المشاركين في الحركة، لاغتباط قادتها في البداية، حتى تجد الحركة الأصلية نفسها أقلية، وسط تيارات وحركات وتنظيمات وآيديولوجيات وأفراد، بينهم بالطبع المتعاطفون إنسانياً، وبعضهم لدوافع أخرى لترويج آيديولوجيات أو افتعال مواجهات أو إثارة أمور لا علاقة لها بالأهداف الأصلية الإنسانية. الأخطر بالطبع الجهل بالتفاصيل، وذوو المعرفة السطحية الذين يندمجون في الحركة بدوافع عاطفية ويندفعون بتحمس الجماعة إلى ارتكاب مخالفات قانونية تضر بالحركة الأصلية وتخسرها التعاطف الشعبي.

حرية التعبير والاحتجاج والتظاهر من الحقوق المقدسة في بريطانيا، وكثير من حركات الاحتجاج تاريخياً تلتزم القانون، وبتقاليد المجتمع، البريطانية.

مسعى المظاهرات جذب انتباه الرأي العام عن طريق الصحافة والإذاعات، ولذا ترى كثيراً من الدمى العملاقة والأقنعة الساخرة بشكل كاريكاتيري من الساسة؛ والأهم إقناع الجهة الوحيدة القادرة على إحداث التغيير المطلوب: نواب البرلمان في وستمنستر.

في الأيام القليلة الماضية، رأينا عدداً معتبراً من نواب مجلس العموم يشكون من «التخويف الاستفزازي» لحركات الاحتجاج، لدفعهم للتصويت في اتجاه محدد (وهو أحد الأسباب التي ساقها رئيس البرلمان في خروجه عن الأعراف البرلمانية الأسبوع الماضي).

وتخصيص 31 مليون جنيه إسترليني يوم الأربعاء لحماية مخصصة لنواب البرلمان من تهديدات المحتجين.

شكوى النواب من تهديدات المحتجين كالصراخ في وجوههم بمكبرات الصوت، ومحاصرة منازلهم والهتافات المعادية بمكبرات الصوت (كما حدث مع النائب توبايز إيللوود وزير الدفاع السابق، ووزير شؤون الشرق الأوسط في الخارجية سابقاً، ولجنة شؤون الدفاع البرلمانية) ومحاصرة مكاتب الدائرة لعدد من النواب بسبب التزامهم خطَ الحزب في مناظراتهم البرلمانية (كما حدث للنائبة العمالية المسلمة روشانارا علي).

رئيس الوزراء ريشي سوناك استدعى مفوضي قوات البوليس وحثهم على عدم السماح «لسلطة الغوغاء» بأن تكون بديلاً عن «حكم الديمقراطية».

وزير الداخلية، جيمس كليفرلي، قال إن المظاهرات والمسيرات حققت الغرض من تعاطف الرأي العام، وناشد المتظاهرين التقليل منها، حيث تجاوزت تكاليف حراستها ورعايتها 24 مليون جنيه من ميزانية بوليس لندن، بجانب أنها تشغلهم عن متابعة الجريمة في أماكن أخرى.

بتشريح المسيرات والمظاهرات في الفترة الأخيرة تجد أن بها كثيراً من التيارات، لا علاقة لها بالفلسطينيين أو الإسرائيليين، وربما لا يعرف كثيرهم أين تقع غزة على الخريطة.

هناك الكثيرون من محترفي المظاهرات وتعطيل المرور، وأيضاً تنظيمات ليس في تاريخها اهتمامات بقضايا الشرق الأوسط كمحتجي البيئة، أو حركة منع التنقيب عن البترول، وحركات المثليين، لكنهم يركبون الموجة للدعاية لأنفسهم لتظهر الكاميرات لافتاتهم.

أما التيارات التي دفعت برئيس الحكومة للتحذير من «سلطة الغوغاء» وتخصيص الحراسة للنواب، فوراءها آيديولوجيات وتنظيمات سبقت نشاطاتها أحداث أكتوبر (تشرين الأول) الماضي المأساوية بسنوات؛ وهي حركات تتسم بالعنف، وليس بين أعضائها وناشطيها عرب. فمثلاً من يقفون بالميكروفونات ويدعون إلى «إعلان الجهاد العالمي» أو يحاصرون مكاتب النواب أو يهددون أسرهم، ينتمون تاريخياً إلى حركات، متطرفة أو مدرجة على قوائم الإرهاب، وعضويتها ممنوعة قانونياً. وهناك من لا يعرفون من اللغة العربية سوى نصوص بسيطة لترديد ما يلزم فقط لأداء شعائر الدين، ولذا فمعرفتهم بتاريخ مشكلات المنطقة وأسباب الخلاف، سطحي ومحدود بالترجمات الانتقائية.

الحملة الانتخابية بدأت بالفعل وأولوية الناخب الاقتصاد الذي يؤثر عليه سلباً تهديد الملاحة في البحر الأحمر، فماذا نتوقع رد فعل المواطن البريطاني لرفع أعلام الحوثيين في المسيرات؟

أو رد فعله لاستقطاع البوليس الوقت والميزانية من أمن المواطنين لحراسة المظاهرات؟

وكيف وصل الأمر بأن ترتبط في الأذهان عبارات «كسلطة الغوغاء» أو «تخويف النواب» بحركة بدأت أصلاً بنوايا نبيلة ولأهداف إنسانية؟

ولذا فمن الحكمة أن تبتعد حركة دعم السلام في غزة ومساعدة المدنيين، بنفسها عن التيارات والتنظيمات الغريبة جغرافياً وتاريخياً وفكرياً، التي تركب موجة الاحتجاجات لأغراض لا علاقة لها بالأهداف الأصلية الإنسانية.