د. ثامر محمود العاني
أكاديمي وباحث عراقي شغل العديد من المناصب الإدارية والأكاديمية، بينها إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية. كما عمل محاضرا في مناهج الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد ومعهد البحوث والدراسات العربية. يحلل في كتاباته مستجدات الاقتصاد السياسي الدولي.
TT

ميزانية 2024 في مواجهة التحديات الاقتصادية للسعودية

استمع إلى المقالة

أُقرت الميزانية العامة للسعودية للعام المالي 2024، والتي قُدّرت فيها الإيرادات بـ1.172 تريليون ريال، والنفقات بـ1.251 تريليون ريال، وبعجزٍ محدود 79 مليار ريال.

منذ إطلاق «رؤية 2030»، حققت السعودية إنجازات مع استمرار الحكومة في الإصلاحات الهيكلية على الجانبين المالي والاقتصادي، ورفع معدل النمو الاقتصادي المستدام في ضوء المقومات والفرص التنموية الكبيرة التي تتمتع بها المملكة في إطار «رؤية 2030» لتمكينها من المضي قدماً نحو مستقبل أفضل يليق بمكانتها، مما كان له انعكاس جليٍّ وبارز في نمو الناتج المحلي للأنشطة غير النفطية.

وقد التزمت الحكومة السعودية في ميزانية العام المالي 2024، بتعزيز النمو الاقتصادي عبر التوسع في الإنفاق الحكومي، إذ إن أرقام الميزانية تأتي داعمة وممكّنة لكثير من البرامج والمبادرات التي تشتمل على استثمارات لتعزيز البنية التحتية، ورفع جودة الخدمات المقدمة، بالإضافة إلى تطوير القطاعات الاقتصادية الواعدة، وتعزيز جذب الاستثمارات، وتحفيز الصناعات، ورفع نسبة المحتوى المحلي والصادرات السعودية غير النفطية، والدور الفاعل والمهم لصندوق الاستثمارات العامة، وصندوق التنمية الوطني، واستمرار العمل على تطوير أداء المالية العامة، من خلال زيادة القدرة المالية وبناء الاحتياطيات الحكومية، بما يعزز قدرة الاقتصاد، ويحافظ على مستويات مستدامة من الدين العام، وبما يمكّن من مواجهة أي تطورات أو أزمات مستقبلية.

وفي إطار تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص، بينت الميزانية ضرورة تطوير الشراكة مع القطاع الخاص وتعزيزها لتمكينه وتحفيزه للقيام بدوره في تحقيق التنوع الاقتصادي، لتمكين سوق العمل من استيعاب المزيد من القوى العاملة، وخلق فرص وظيفية في سوق العمل وخفض معدلات البطالة، حيث ارتفع إجمالي عدد السعوديين في سوق العمل عام 2023 إلى 2.3 مليون، علاوة على تحسين البيئة الاستثمارية لتكون بيئة جاذبة تسهم في رفع نسبة الاستثمار المحلي والأجنبي، وتنمية الصادرات غير النفطية وتحسين ميزان المدفوعات التجاري غير النفطي، إذ إن التنوع الاقتصادي مستمر عبر دعم القطاعات الواعدة، لأن السعودية تعمل على رفع مستهدفات السياحة إلى 150 مليون زائر داخلياً وخارجياً بحلول عام 2030، بالإضافة إلى بناء قطاع رياضي فعّال من خلال مشروع الاستثمار والتخصيص للأندية الرياضية، تحقيقاً لمستهدفات «رؤية السعودية 2030» في القطاع الرياضي. إذ تشهد هذه القطاعات نمواً متسارعاً يحقق فرصاً متنوعة.

وقد عزمت السعودية على تطوير القطاع الصناعي، لأنه من أهم القطاعات الحيوية في الاقتصاد السعودي، من خلال تنويع القاعدة الصناعية وسلاسل القيمة عبر الاستراتيجية الوطنية للصناعة التي تركز على 12 قطاعاً فرعياً لتنويع الاقتصاد الصناعي، ورفع الناتج المحلي الصناعي نحو ثلاثة أضعاف مقارنةً بعام 2020، ليصل إلى 895 مليار ريال في عام 2030، ليكون مساهماً رئيسياً في تنمية الصادرات غير النفطية، تزامناً مع الدور المهم لـ«صندوق الاستثمارات العامة» بوصفه الذراع الاستثمارية المساهمة والمكمِّلة لجهود الحكومة في تنوع الاقتصاد، والدور المحوري لصندوق التنمية الوطني والصناديق التابعة له بتوفير التمويل الميسّر للقطاع الخاص.

تستهدف السعودية في ميزانية عام 2024، التوسع في الإنفاق الاستراتيجي على المشروعات التنموية وفق الاستراتيجيات الوطنية المعتمَدة، المتوائمة مع مستهدفات «رؤية 2030» والتوجهات الوطنية، واستمرارها في تنفيذ البرامج والمشروعات ذات العائد الاقتصادي والاجتماعي، إضافةً إلى دعم التنوع الاقتصادي وتمكين القطاع الخاص بتحسين وتطوير بيئة الأعمال لرفع جاذبيتها، وتعزيز معدلات النمو الاقتصادي.

كما تعتزم الاستمرار في عمليات الاقتراض المحلية والخارجية، لتمويل العجز المتوقَّع في الميزانية، وسداد أصل الدين المستحق خلال 2023 وعلى المدى المتوسط، وكذلك الاستفادة من الفرص المتاحة حسب ظروف الأسواق لتنفيذ عمليات تمويلية إضافية استباقية لسداد أصل الدين للأعوام المقبلة وتمويل بعض المشروعات الاستراتيجية. إذ إن السعودية قادرة على تمويل الموازنة من دون عجز، بسبب قدرتها المالية العالية من خلال «صندوق الاستثمارات»، ولكن القروض التي تأخذها من مصادر التمويل المتوفرة، تمثل ممارسة مهمة للتعامل مع القروض لمواجهة التحديات، على الرغم من قدرتها المالية العالية، إذ إن هذه العملية تمثل تمريناً مهماً للعاملين في الجانبين المالي والنقدي، في ظل التطورات الدولية الاقتصادية والسياسية التي يمر بها العالم، إذ تمثل ممارسةً لمواجهة الظروف المتغيرة التي قد تحصل في العالم.

وفي هذا الخصوص، فإن السعودية أمام خيارين؛ إما أن تؤخِّر مشروعاتها، وإمّا أن تقترض لإنهاء هذه المشروعات في الوقت المحدد لمواجهة الاستحقاقات المقبلة للسعودية، على رأسها استضافة كأس العالم، ومعرض إكسبو 2030 وغيرها من الفعاليات. لذلك اختارت السعودية الاقتراض بدلاً من تأخير المشروعات، إذ إن هذه الديون تمت وفق فائدة ثابتة، وسُدِّد جزء من هذه الديون قبل أوقات استحقاقها، وإن إدارة الدين في السعودية قد سددت جزءاً كبيراً من الديون ذات الفائدة المتحركة، تجنباً للأعباء المترتبة على الدين.

وفي الختام، إنّ ارتفاع الإنفاق يعود بشكل رئيسي إلى حرص الحكومة على الاستمرار في تطوير مستوى الخدمات العامة المقدَّمة، وتنفيذ الكثير من المشروعات والتوسع في الإنفاق على استراتيجيات التطوير القطاعية والمناطقية التي من شأنها أن تحقق تغيرات هيكلية إيجابية تؤدي إلى توسيع القاعدة الاقتصادية وتنويعها، كما أن هناك إشادات كبيرة من وكالة التصنيف الائتماني، إذ إن السعودية حصلت على تصنيفات إيجابية من ثلاث وكالات أساسية للتصنيف الائتماني، وإن العجز غير مقلق لأنه ناتج من إنفاق استثماري، وجاء لتطوير مشروعات إضافية.