علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

لويس عوض والإسلاميات المعاصرة

استمع إلى المقالة

حين أعلنَ لويس عوض في محاضرته «التطور الثقافي في مصر منذ 1952» عن انتهاء طه حسين سنة 1938، بعد تأليفه كتاب «مستقبل الثقافة في مصر»، لأنَّه ألَّف بعد هذا الكتاب سلسلةً من التراجم الدينية، ردَّ عليه مترجم محاضرته محمد يوسف نجم قائلاً: «هذا تضليل للمستمعين، فقد ألّف طه حسين بعد صدور (مستقبل الثقافة في مصر) عدداً من أهم كتبه، وخاصة تلك التي ظهر فيها اتجاهه الإنساني التقدمي ونقمته على تخلف الأوضاع في مصر، نذكر من كتبه تلك: (الأيام ج2)، (دعاء الكروان) – وإن كانت نشرت مسلسلة قبل ذلك – (مع أبي العلاء في سجنه)، (أحلام شهر زاد)، (الحب الضائع)، (جنة الشوك)، (جنة الحيوان)، (مرآة الضمير الحديث)، (المعذبون في الأرض)، (شجرة البؤس)...».

في هذه الكتب التي عددها محمد يوسف نجم في رده على لويس عوض وقع في خطأ واحد، وهو أنَّ كتاب «دعاء الكروان» في طبعته الأولى صدر عام 1934.

وأضيف إلى رده ردّاً آخر، وهو أنَّ الجزء الأول من كتاب طه حسين «على هامش السيرة»، صدر قبل سنوات من صدور كتابه «مستقبل الثقافة في مصر». فهذا الجزء صدر عام 1933، وصدر الجزء الثاني منه عام 1937، أمَّا الجزء الثالث منه، فلقد صدر في العام نفسه الذي صدر فيه كتاب «مستقبل الثقافة في مصر»، وهو عام 1938. ولا أعلم إن كان قد صدر قبله بشهر أو أشهر أم أنه صدر بعده بشهر أم أشهر في هذا العام.

بعد أن أعلن لويس عوض عن انتهاء طه حسين بعد تأليفه كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» الذي يعده ذروة نتاجه الثقافي، واصل الحديث عن بعض كتب طه حسين الإسلامية، فقال: «كتب (على هامش السيرة) معتمداً على (سيرة ابن هشام). هنالك كتاب مشهور عن سيرة محمد كتبه ابن هشام، وهو طبعاً ككل كتب القرون الوسطى يحتوي على العديد من الخرافات التي كانت شائعة في فترة ما عن حياة محمد، والتي لا يعترف بها الإسلام الرسمي. فإنَّ كل من له إلمام بالإسلام السني يعلم أنه يفخر بخلوه من المعجزات باستثناء معجزة القرآن. ولكن في سيرة النبي لابن هشام تجدون عدداً من المعجزات التي تنسب إلى النبي. وبعد (على هامش السيرة) أصدر طه حسين (الفتنة الكبرى) عن عثمان الخليفة الراشد الثالث. ثم أصدر (علي وبنوه). وأظن أن هذا أمر ذو دلالة بالغة لأن العقاد في الوقت نفسه أنهى مهمته كقائد من قادة الفكر، وعكف على كتابة سلسلة من السير الدينية. لقد كتب حوالي خمس عشرة سيرة دينية. لقد تخصص في السير الدينية».

يعني لويس عوض بالإسلام الرسمي في كلامه السابق، الإسلام السني فهو يماثل بينهما. فالإسلام الرسمي عنده هو الإسلام السني. والإسلام السني عنده هو الإسلام الرسمي. وذلك لأن الإسلام السني هو إسلام أكثرية المسلمين. ولأنه يرى أن هذا الإسلام هو الإسلام الأصلي الخالي من الزيادات الاعتقادية والإضافات التعبدية.

على ضوء هذا التوضيح لمقصده، أسأل: هل صحيح – تاريخياً – أن الإسلام الرسمي، أو الإسلام السني يفخر بخلوه من المعجزات، باستثناء معجزة القرآن؟!

في الفكر الإسلامي السني في عصوره الكلاسيكية، لا وجود لمثل هذه المفاخرة، ولا وجود لهذه الدعوى من أساسها، وإنما هي دعوى قيلت في الفكر الإسلامي الحديث مع نشأته في بداية المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر في القارة الهندية، في تيار من تياراته، وهو تيار التأويل العقلي أو العصري أو التحديثي، الذي أرسى معالمه الرئيسة في هذه القارة السيد أحمد خان. ومن أبرز أعلام هذا التيار في جيله الأول المتأثر بأحمد خان، جراغ علي وسيد أمير علي.

وقيلت تلك الدعوى في مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. الذي بدأ القول بها في مصر، جمال الدين الأفغاني، وعمقها تلميذه محمد عبده.

وهي في ذلك التيار في الهند ومصر كانت تقال عن الإسلام ككل، ولا تقصر على مذهب بعينه من مذاهبه، كالمذهب السني كما توهم لويس عوض.

إن كتاب محمد حسين هيكل «حياة محمد» الذي أتى لويس عوض على ذكره في محاضرته، الذي كتبه صاحبه بروح تاريخية عصرية تحد من نطاق العجائب والخوارق في حياة محمد ﷺ، وتحصرها في المعجزة القرآنية بشتى السبل، كان على رأس قائمة مراجعه باللغة الإنجليزية وباللغة الفرنسية كتاب سيد أمير علي «روح الإسلام».

وسيد أمير علي هو المسلم الوحيد في قائمة مراجعه الأجنبية. وكنا قد نوَّهنا سلفاً بأنَّ إسلامه هو إسلام عصري أو تحديثي.

هذا المسلم العصري التحديثي من الطائفة الشيعية في الهند. وكان كتابه «روح الإسلام» صدر باللغة الإنجليزية عام 1891، وترجم إلى اللغة العربية في أول ستينات القرن الماضي، تحديداً في عام 1960، وقام بترجمته عمر الديراوي.

إن الذي قرأ للويس عوض يعلم أنه ليس حسن الاطلاع في مجال الإسلاميات الكلاسيكية ولا في مجال الإسلاميات المعاصرة، ولا في مجال كتابات المستشرقين عن الإسلام في عصوره الكلاسيكية وعن الإسلام المعاصر. وأظن أن مصدره الأول فيما قاله هو كتاب «حياة محمد» لمحمد حسين هيكل الذي قرأه في أول شبابه. يقول محمد حسين هيكل في خاتمة هذا الكتاب: «فحياة محمد حياة إنسانية بحتة بلغت أسمى ما يستطيع الإنسان أن يبلغ. ولقد كان صلى الله عليه حريصاً على أن يقدر المسلمون أنه بشر مثلهم يوحى إليه، حتى كان لا يرضى أن تنسب إليه معجزة غير القرآن، ويصارح أصحابه بذلك...».

ويكمل تأويله العقلي هذا فيقول: «وهذا الذي جرى عليه النبي وقال به أبو بكر يوم وفاته هو ما حال بين كثير من علماء المسلمين وكتابهم والوقوف عند ما أضيف إلى سيرة النبي من خوارق وضعها بعض الغلاة مضاهاة لما ورد في القرآن عن عيسى وموسى، أو دسها من دسوا من الإسرائيليات على الإسلام ونبيه ليزيفوا بها العقائد، وليبعثوا بها الشك إلى نفوس من يؤمنون بأن سنة الله لن تجد لها تبديلاً. وما كان محمد بحاجة إلى الخوارق لإثبات رسالته، وقد كانت حياته قبل الرسالة مضرباً في الصدق والكرامة والأمانة، وكانت حياته بعد الرسالة كلها التضحية في سبيل الله وفي سبيل الحق الذي بعثه الله به».

إن لويس عوض لو كان مطلعاً على الإسلام المعاصر في الهند مثل بعض الأسماء في جيل ثقافي قبله، كأحمد أمين وعباس محمود العقاد ومحمد عبد الله عنان، لعرف أن كلام محمد حسين هيكل قول إسلامي محدث، تقول به مدرسة السيد أحمد خان، وأن محمد حسين هيكل تزود به عبر أحد ممثليها، سيد أمير علي من خلال كتابه «روح الإسلام». وللحديث بقية.