طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

الوثيقة الكاذبة و«المسكوت عنه»

استمع إلى المقالة

طرحت الألفية الثالثة وثائق بالصوت والصورة، لم تكن متوفرة في الزمن الماضي، وفي العادة نعيد كتابة التاريخ بناء على المعلومات الجديدة.

أحاديث الفنانين، مشهور أم مغمور، موهوب أم موهوم، صار جزءاً منها متوفراً عبر العديد من المنصات الرقمية، عندما تحكي واقعة، من الممكن أن تجد من يكذبك مستعيناً بوثيقة مضادة لها في الاتجاه، مغايرة لها في المعلومات!

شاهدت مثلاً نور الشريف وهو يروي كواليس فيلم «المصير»، وكيف لعب دور «ابن رشد»، رغم أنه كان قد اعتذر في البداية، عندما أصر يوسف شاهين على أن يسند إلى نور دور «الخليفة»، وعندما سألته المذيعة ومن كان مرشحاً لدور «بن رشد»، أجابها يوسف شاهين كان متحمساً لأداء، وفي النهاية خضع لرأي نور، مكتفياً بالإخراج.

هل قال نور الشريف كل الحقيقة، أم ما يتصور أنه الحقيقة؟ أنا لدي وثيقة أخرى، يحيى الفخراني - متعه الله بالصحة والعافية - هو وثيقتي، قال لي إنه أول من رشح لدور «ابن رشد»، وبعد أن قرأ السيناريو، ووافق على كل التفاصيل، أراد أن يضيف في التعاقد شرط كتابة اسمه على «الأفيش» و«التترات» سابقاً الجميع، كان يخشى أن يضعه يوسف شاهين في مكانة لا تليق أدبياً به، رغم أنه البطل، هذا الشرط تحديداً لا يقبله شاهين، وتعطلت بينهما لغة الكلام، وتم ترشيح نور الشريف، هل كان نور يعرف أن الفخراني كان مرشحاً قبله للدور؟ ليس لدي يقين، أراه التاريخ المسكوت عنه، الفخراني لم يذكر ذلك، إلا في حوار سجلته بمناسبة تكريمه في المهرجان القومي للسينما المصرية، قبل سبع سنوات.

كثيراً ما يؤكدون أن أم كلثوم توجهت لبليغ حمدي ملحناً بعد أن قدمه لها الموسيقار محمد فوزي، لأنها كانت تبحث عن التجديد في أغانيها، ورددت له بعدها «حب إيه»، لم يذكر أحد الدافع الأساسي، وهو أن أم كلثوم كانت في خصومة شديدة مع توأمها الفني الموسيقار رياض السنباطي، وصلت للمحاكم، وذلك عام 1960، بسبب خلافات مادية، السنباطي كان يريد الحصول على نسبة من بيع «الأسطوانات»، بينما أم كلثوم وجدت أنه يحاول فرض شروطه، لإحساسه أنها لن تجد بديلاً عنه، كما أنها كانت قد تفاقمت القضايا بينها والشيخ زكريا أحمد للسبب نفسه، بالإضافة لأنها أوقفت التعامل مع الملحن محمد القصبجي، وصار فقط عازفاً في فرقتها، ولم يعد لديها سوى السنباطي.

التقطت بليغ حمدي، وصار يشكل، القوة الضاربة في آخر خمسة عشر عاماً من حياتها، حتى بعد عودتها لرياض السنباطي ووجود الموسيقار محمد عبد الوهاب ملحناً منذ 1964 في «أنت عمري»، كان بليغ عنواناً مميزاً على خريطتها.

ورغم ذلك فإن مما هو مسكوت عنه، أن أم كلثوم في مطلع السبعينات، وجهت ضربة مباغتة لبليغ حمدي، تقاعس بليغ عن استكمال «الكوبليه» الأخير من لحن قصيدة «من أجل عينيك» شعر الأمير عبد الله الفيصل، وذلك لانشغاله بتلحين أغنية جديدة لعبد الحليم حافظ، وهي من المرات النادرة التي يلحن فيها بليغ حمدي قصائد، أجل بليغ موعد «البروفة» أكثر من مرة، وكان من المعروف في الكواليس أن السنباطي كثيراً ما كان يسخر من أغانيها التي رددتها لغيره من الملحنين، وعلى رأسهم بليغ، كان يراها تتناقض مع وقار «الست»، فقررت أم كلثوم أن تلقنه درساً، لم ينسه أبداً، أسندت تلحين «من أجل عينيك» إلى رياض السنباطي، حاول بليغ إرضاءها أكثر من مرة دون جدوى.

قانون «الملكية الفكرية» يحول دون تلحين الكلمات بأكثر من لحن، وهكذا لم يستطع بليغ حتى بعد رحيل أم كلثوم إسناد لحنه لمطربة أخرى. بعد أن كان بليغ هو السلاح الذي استخدمته لتلقين السنباطي درساً، صار السنباطي هو سلاحها لتأديب بليغ، وهذا أيضاً «مسكوت عنه»!