توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

حول برنامج التحول الوطني

كان برنامج التحول الاقتصادي الوطني موضوعًا لمناقشات عديدة في الصحافة السعودية خلال الأيام الماضية، رغم أنه لم يعلن رسميًا. تناقش هذه المقالة فكرة التحول في عمومها، وتؤكد أهمية المشاركة الأهلية في استراتيجيات العمل التي يتضمنها أي برنامج من هذا النوع.
ينبغي الإشارة أولاً إلى انطباع عام فحواه أن البرنامج العتيد يمثل نوعًا من الاستدراك أو التعديل على خطط التنمية الخمسية التي تبنتها المملكة منذ عام 1971م. وإذا صح هذا التقدير فإنه من الضروري إيضاح الأسباب التي أوجبت ذلك الاستدراك أو التعديل. تنطوي الأسباب بطبيعة الحال على قراءة نقدية للنتائج التي أسفرت عنها خطط التنمية طوال الأربعين عامًا الماضية. ليس من أجل جلد الذات ولا توجيه الاتهام إلى أحد بعينه، بل من أجل فهم المسار والأهداف على نحو أوضح.
أشير أيضًا إلى عامل التوقيت. فالفهم العام يميل إلى اعتبار البرنامج واحدًا من المعالجات التي أملتها ظروف الانكماش الاقتصادي الراهن. ينصرف هذا الفهم - إذا صح - إلى الظن بأن البرنامج يستهدف توفير مصادر دخل بديلة عن تصدير البترول الخام، أو تقليص النفقات الحكومية الحالية. إن توضيح هذا الجانب ضروري لتقييم السياسات التي يفترض أن يحتويها البرنامج المذكور، أي اختبار ما إذا كانت تؤدي حقيقة إلى هذه الغاية أم لا.
نحن بحاجة إلى توضيح هاتين المسألتين، من أجل إقناع المجتمع بالمشاركة الفاعلة في عملية التحول. ويحسن القول في هذا المقام إن خطط التنمية الخمسية التسع السابقة لم تلحظ هذا الجانب. فكأن واضعي تلك الخطط افترضوا تحميل الدولة أعباء التنمية بكاملها. ونعلم أن بحوث التنمية الحديثة، سيما في العقدين الماضيين، تتفق جميعًا على استحالة تحقيق نمو متوازن ومستدام، من دون الانخراط الفعال للمجتمع في سياسات التنمية وبرامجها.
التنمية في مفهومها الحديث تتجاوز تمويل المشروعات وإنشاء البنى التحتية، إلى خلق مصادر جديدة، مادية وتقنية، تتعدد وتتنوع على نحو يستحيل على جهة واحدة تحديدها سلفًا واستيعاب أبعادها. المجتمع ككل هو البيئة الطبيعية لظهور وتبلور هذه المصادر، الأمر الذي يوجب على مؤسسات التخطيط استنهاض هذه الطاقة الكامنة وتفعيلها ورعاية تطورها وربطها بدائرة الاقتصاد الكلي.
المثال الذي يضرب في هذا السياق هو اقتصاد المعرفة، الذي ظهر في السنوات الأخيرة، وتحول سريعًا إلى مورد رئيسي للصادرات وفرص العمل، ومحرك للنمو التقني. مشروعات مثل الهواتف الذكية من شركة «آبل»، والمتاجر الإلكترونية مثل «أمازون»، والبوابات الإلكترونية مثل «غوغل» الأميركي و«علي بابا» الصيني، أضافت عشرات المليارات من الدولارات إلى الدخل القومي لبلدانها، لكنها - فوق ذلك - ساهمت في تسريع التطور التقني الذي خلق ملايين من الوظائف الجديدة. لم يكن أي من هذه المشروعات حكوميًا، ولا بدأ بدعم حكومي، بل كان ثمرة لإبداع الناس، وتوفر الحاضن الاجتماعي المناسب لهذا الإبداع، مع الدعم والاحتضان الرسمي في وقت لاحق. مثل هذه المشروعات وفرت للدولة ما لم تستطع توفيره أجهزتها، رغم أنها لم تنفق عليه أي شيء تقريبًا.
استنهاض الطاقات الكامنة في المجتمع سيريح الدولة من نفقات كثيرة، لكنه أيضًا سيحول المجتمع من عبء على نفسه وعلى الدولة، إلى شريك في حل مشكلاته. وهذا من أبرز أغراض التنمية البشرية التي يتحدث عنها عالم اليوم.