كريس دول
TT

دلالات الانتخابات البريطانية للشرق الأوسط

لا تزال بريطانيا تحاول سبرَ أغوار نتائج انتخابية صادمة جديدة لم تتضح تداعياتها على السياسة الخارجية للبلاد وعلى العالم بعد.
ورغم أن الهدف من الانتخابات كان حسم مسألة من يتولى إدارة البلاد، فإن الغموض ما يزال سيد الموقف بهذا الشأن. خلال هذا العقد، قدم الناخبون بالفعل اثنين من البرلمانات المعلقة، الأمر الذي لم تشهده البلاد منذ سبعينات القرن الماضي. كما صوّت الناخبون البريطانيون لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي بعد أربعة عقود من مساهماتها في إنشائه. وكان من المفترض أن تثمر انتخابات 8 يونيو (حزيران) نتيجة حاسمة تتمثل في أغلبية ضخمة لحزب المحافظين بقيادة تيريزا ماي بهدف منح بريطانيا «حكومة قوية ومستقلة»، حسبما دعت ماي. بيد أنه بدلاً عن ذلك، نجد أنفسنا في مواجهة حــكومة أقلية واهنـــــة.
الملاحظ أن معظم التقديرات، بل والكثير من أعضاء حزب المحافظين يتوقعون استمرار تيريزا ماي في منصبها ما بين 6 شهور وعام واحد. ويتوقع آخرون إجراء انتخابات أخرى هذا العام.
في الوقت الراهن، تظل ماي رئيسة الوزراء، لكن بنفوذ أقل بعد الجراح التي ألمّت بها جراء نتائج الانتخابات. وقد أجبر كبار مستشاريها بالفعل على الاستقالة، ويعتقد الكثيرون أنه يتعين على ماي أيضاً الرحيل.
وعلى عكس طبيعتها، سيتعيّن على ماي العمل على التواصل مع آخرين ممن تختلف معهم. وسيتعيّن عليها التخلي عن الأحلام والتطلعات التي كانت تراودها من قبل وتركيز اهتمامها على البقاء.
وفيما يخصّ السياسة الخارجية البريطانية، فإن وجودها الحالي نادر فيما وراء الإطار الضيق لمفاوضات الـ«بريكست». وربما تشعر دول حليفة وصديقة تقليدية لبريطانيا بالإحباط جراء غياب الاهتمام البريطاني على المستوى الرفيع.
ومن المتوقع ألا تقدم بريطانيا على المشاركة في أي مبادرات دبلوماسية كبرى لتسوية صراعات مثل ذلك الصراع المشتعل في سوريا.
جدير بالذكر أن مفاوضات الـ«بريكست» الرسمية من المقرر أن تنطلق في غضون ثمانية أيام فقط، ومن المنتظر أن يكون ذلك بمثابة الطلاق الأشد تعقيداً في التاريخ وأكثر مرارة. من ناحيتها، اتهمت تيريزا ماي المفوضية الأوروبية بالتدخل في الانتخابات البريطانية. ويرى البعض أن ماي سيتعين عليها اختيار سبيل أقل قسوة نحو الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، ربما يتضمن محاولة البقاء داخل السوق المشتركة والاتحاد الجمركي.
والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا: ما الذي سيعنيه ذلك بالنسبة للدور البريطاني في الشرق الأوسط؟ من المحتمل أن تتركز السياسات البريطانية تجاه المنطقة خلال الفترة المقبلة على الجانبين التجاري والأمني. ويعني وقوع ثلاث هجمات إرهابية في بريطانيا خلال الشهور الثلاثة الأخيرة أنها ستكون في خط المواجهة في التعامل مع تحدي تنظيم داعش داخل العراق وسوريا، مع تنامي مشاركتها داخل ليبيا.
وربما ترغب ماي في تصدير صورة صارمة لنفسها، وربما تعمل على مقارنتها بصورة جيرمي كوربين، زعيم حزب العمال، الذي يرفض بقوة التدخل في دول أخرى.
ومع هذا، فإن هذا البـــــرلمـــــان لن يصرح باستخدام القوة سوى في ظل الظروف الأكثر استثنائية من نوعها، خاصة أن أيا من تدخلات بريطانيا الخارجية خلال السنوات الأخيرة يجري النظر إليها باعتبارها ناجحة، خاصة في العراق وليبيا. وربما لا تحصل ماي ببساطة على أي أصوات تخول لها استخدام القوة، ما سيفرض عليها التخلي عن أي خطط للوقوف بجانب ترمب في أي هجمات مستقبلية في سوريا.
أما العلاقات مع الدول الخليجية، فتظل دافئة على جميع المستويات. ومن المتوقع أن تحرص بريطانيا على تهدئة التوترات المشتعلة بين قطر وجيرانها دون اتخاذ صف واضح. وستبقى مبيعات الأسلحة إلى المنطقة قضية مثيرة للجدل، خاصة في ظل وجود عدد أكبر من أعضاء حزب العمال في صفوف البرلمان. كما ستشكل جهود الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران عنصراً محورياً في السياسة الخارجية البريطانية تجاه الشرق الأوسط.
ومثلما كان الحال من قبل، ستميل الحكومة نحو التركيز على تعزيز الروابط التجارية بهدف تعويض أي تداعيات اقتصادية مؤلمة مترتبة على الـ«بريكست». ومن غير المحتمل أن تسمح بريطانيا بوقوف أي شيء في طريق هذه الأولوية، خاصة قضايا حقوق الإنسان.
ومع ذلك، فإنه بالنظر إلى أنها حكومة أقلية، فإن الضغوط الشعبية عليها ربما تتسم بفاعلية أكبر. وربما يجد داونينغ ستريت نفسه مضطراً لإبداء استجابة أكبر لمشاعر القلق العامة، خاصة لما تعرضت له رئيسة الوزراء من انتقادات واسعة خلال حملتها الانتخابية لرفضها الإنصات والحديث إلى الناخبين.
وربما تبلغ هذه الضغوط العامة ذروتها فيما يتصل بالعلاقات مع البيت الأبيض بقيادة ترمب. الملاحظ أن شعبية ترمب تراجعت داخل بريطانيا منذ يناير (كانون الثاني). ورغم عدم الإعلان عن موعد محدد، فإنه من المقرر أن يزور ترمب المملكة المتحدة في وقت لاحق من العام. وربما يعني تراجع نفوذ ماي أنه يتعين عليها التحلي بحذر أكبر في وقوفها إلى صف ترمب. وعليه، فإن السير على نهج أميركا داخل الشرق الأوسط، الاتهام التقليدي الموجه لبريطانيا، قد ينطوي على مخاطر مفرطة لماي. والقول ذاته قد ينطبق على التعامل مع القضية الفلسطينية، حيث لا تلقى سياسة ماي شديدة التأييد لإسرائيل قبولاً من الرأي العام.
* رئيس مجلس التفاهم البريطاني - العربي