عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

ترمب: 100 يوم... واليوم بسنة

يُنسَب للرئيس الأميركي الراحل جون كيندي قوله ما معناه «إنه لا توجد مدرسة لتخريج الرؤساء»، قاصداً بذلك أن كل رئيس يتقلد المنصب عليه أن يتعلم من واقع التجربة، ومن الظروف المتغيرة في عالم السياسة.
هذا الكلام ينطبق تماماً على الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب، وسجله خلال المائة يوم الأولى من رئاسته التي جعلت العالم يلهث في متابعة سيل التصريحات والقرارات والتغريدات المثيرة، ومحاولة استيعاب التراجعات والاستدارات السياسية. ترمب نفسه حاول أن يبدو وكأنه غير مكترث بتقويم المائة يوم الأولى من رئاسته، التي ستكون قد اكتملت بحلول يوم السبت المقبل، قائلاً إنه أمر مختَرَع. لكن البيت الأبيض حرص على إصدار بيان صحافي للحديث عن إنجازات الرئيس في هذه الفترة، زاعماً أنه أنجز أكثر مما أنجزه أي رئيس منذ فرانكلين روزفلت قياساً بعدد الأوامر التنفيذية التي أصدرها.
جردة الحساب التي بدأت وسائل الإعلام في تناولها بهذه المناسبة كانت لاذعة وسلبية في معظمها، فترمب طوال حملته الانتخابية وبعد دخوله البيت الأبيض رافقته ضجة هائلة حول شخصيته وتقلباته المزاجية، وتحذيرات من مغبة عدم معرفته بتعقيدات السياسة الدولية، ومن طريقة تفكيره في إدارة أميركا، وكأنها شركة، وهو انطباع رسخه في كثير من تصريحاته، وآخرها في مقابلته مع وكالة «أسوشييتد برس» الإخبارية الأميركية. ففي هذه المقابلة تحدث ترمب عن ضخامة مسؤوليات الرئيس، ولم يجد سوى التعبير عنها بمنطق إدارة الشركات قائلاً إن التكلفة المالية لكل الإدارات والوزارات هائلة «فالولايات المتحدة أكبر آلاف المرات من أضخم شركة في العالم. ثاني أكبر شركة في العالم هي وزارة الدفاع، وثالث أكبر شركة هي الضمان الاجتماعي، وهكذا».
نظرته إلى الرئاسة وكأنها إدارة شركة، ربما هي التي جعلته مستعداً لتغيير مواقفه والتراجع عن تصريحاته الانتخابية في عدد من القضايا، وهو يعتبر كل ذلك جزءاً من «فن إبرام الصفقات». أنصاره يرون ذلك دليلاً على المرونة والواقعية، لكن خصومه يشيرون إلى أن تذبذب مواقفه إنما يعكس جهله وفهمه المحدود للتفاصيل السياسية ويفسر اضطراره إلى مناقضة نفسه وتبديل سياساته.
من الصين التي كان يهاجمها باستمرار، إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي قال عنه إنه عفّى عليه الزمن، إلى روسيا فلاديمير بوتين التي ظل يردد أنه يريد تحسين العلاقات معها، تغيرت سياسات ترمب ومواقفه بسرعة مذهلة. فالصين أصبحت قوة يريد التقارب والتعاون معها لحل أزمة كوريا الشمالية، وذلك بعد لقائه مع رئيسها. و«الناتو» لم يعد حلفاً منقرضاً بل عاد مهماً من جديد، ويجد التقدير لدوره الكبير في الحرب ضد الإرهاب، وذلك بعد جولة مباحثات مع أمينه العام. أما روسيا فقد تحول الكلام من تحسين العلاقات معها إلى انتقادات متتالية لدورها، خصوصاً في سوريا.
هذه التقلبات جعلت بعض الناس يحذرون من أن ترمب بسبب جهله بكثير من أمور السياسة وتفاصيلها يكون عرضة للتأثر السريع بما يسمعه ممن هم حوله من المستشارين، أو من يلتقيهم من المسؤولين السياسيين. فمثلاً يعزو هؤلاء التغير في مواقفه، إلى تراجع نفوذ بعض المقربين المحيطين به، مثل ستيف بانون كبير المخططين الاستراتيجيين في البيت الأبيض المعروف بمواقفه اليمينية المتطرفة، الذي لعب دوراً كبيراً مع مستشار الأمن القومي المستقيل الجنرال مايكل فلين في صياغة أفكار ترمب وبرامجه خلال حملة الانتخابات، وفي الأسابيع الأولى من رئاسته.
ويبدو أن بانون بدأ يفقد حظوته لدى الرئيس بعد خلافاته ومعاركه مع جاريد كوشنر المستشار الخاص في البيت الأبيض وزوج إيفانكا ترمب الابنة المفضلة التي تملك تأثيراً كبيراً على عواطف أبيها. وفي مقابل تراجع نفوذ فريق الحملة الانتخابية تزايد نفوذ مسؤولين من ذوي الخبرة، مثل وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس، ومستشار الأمن القومي الجنرال هيربرت ماكماستر، ووزير الخارجية ريكس تيلرسون.
لكن ما زال هناك كلام يتردد عن أن كثيراً من دوائر صنع القرار حول العالم أدركت أن ترمب، بسبب عدم إلمامه بكثير من التفاصيل السياسية، فإن أفضل طريقة للتأثير عليه هي المسارعة إلى ترتيب لقاء مباشر معه. فالرئيس الصيني مثلاً استطاع إقناعه في عشر دقائق بوجهة نظره فيما يتعلق بالدور المحدود والحذر الذي يمكن أن تقوم به بكين للحد من جموح كوريا الشمالية، وذلك بعد أن أعطاه درساً في تاريخ العلاقات والحروب بين الصين وكوريا. وقد اعترف الرئيس الأميركي بهذا الأمر في مقابلة مع صحيفة «وول ستريت جورنال» نُشرت قبل أيام.
ترمب لا يزال بالتأكيد في طور التعلم، لكنه يبقى في نظر الكثيرين مثل صندوق الألغاز الذي يفاجئك في كل مرة بشيء مختلف، والمائة يوم الأولى من رئاسته لم تزد الأمور إلا غموضاً، وهو أمر لا يُشعِر المرء بالاطمئنان بل بالقلق، خصوصاً في ظل أوضاع مضطربة حول العالم.