د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

«الشعبويّة» المتأخرة على الطريقة العربيّة

الحاصل اليوم في مجتمعاتنا العربية هو هيمنة الشعبويّة في ممارسة السياسة والتواصل مع الرأي العام: غالبية الأحزاب والمؤسسات الإعلاميّة باتجاهاتها المختلفة تحاول دغدغة مشاعر الشعوب والظهور في موقف المساند المطلق لطلباتها ولاحتجاجاتها بلفت النظر عن المصلحة العامة ومصالح الاقتصاد والدولة.
طبعا الشعبويّة كتيار ليس حديث العهد وعرفته أوروبا مبكرًا، وهو يقوم على فكرة «تقديس الشعب» والانضمام إلى صفه في كل الحالات وإذكاء الانفعالية على سلوكه. غير أن الأوروبيين تجاوزوا الشعبوية أو لنقل إن أيتام الشعبويّة فيها اليوم يعدون على الأصابع، وذلك بفعل تراكم قيم العقلانية وما عرفته المجتمعات من عقلنة معمقة ومتزايدة استطاعت أن تفعل فعلها في العقليات وأعادت صياغة العقل الأوروبي على نحو عقلاني.
إذن نحن نعاني من ظاهرة الشعبوية المتأخرة تمامًا، كما يمكن أن يفاجئ رجل امرأة في الخمسين من عمرهما بما اصطلح على تسميته المراهقة المتأخرة.
أي أنه من أجل أغراض دعائية سياسية آنية ولحظويّة، تتنازل النخب السياسيّة عن دورها النّقدي وعن الانتصار للعقلانية ومقتضيات البناء اجتماعيًا والانخراط طوعيًا في خطاب شعوبي يدعي مساندة الشعب وهو في الحقيقة ضد الشعب وضد مصلحته وأقصى ما يقوم به هو دغدغة مشاعر الشعب واستثمار انفعالاته.
ويبدو لنا أن هذه الشعوبية التي أعلنت عن نفسها بوضوح بعد الثورات في تونس ومصر وليبيا بشكل أساسي، إنما تسير ضد خصوصية اللحظة الرّاهنة التي تعرفها تلك البلدان مع اختلافات نسبيّة بين السياقات؛ فالانتقال من سياسة الدمغجة التي سادت في مرحلة ما قبل الثورة إلى الشعبوية لا يعني أن الواقع تغير بل إن السياسات تغيرت فقط.
بل إن الدمغجة كانت تحت إشراف طرف واحد هو الحزب الحاكم، واليوم نجد أن الشعبويّة تتجاذبها أطراف عدة وكل واحد يمارسها حسب أجندته الخاصة ولوائح حزبه المعلنة والمسكوت عنها.
من جهة ثانية، نعتقد أن ممارسة خطاب الشعوبية، يمكن أن يكون المرادف للغش السياسي بامتياز، وهو أمر يتعارض مع مسار العقلنة الذي يجب أن يتأكد، ناهيك أن هناك فرقًا بين الشعوبية وفكرة حكم الشعب بالمعنى الديمقراطي للمبدأ؛ ذلك أن حكم الشعب كجوهر الحل الديمقراطي يعني أن الذي يفوز بأغلبية الأصوات هو من يحكم، أي الاحتكام إلى قرار صندوق الاقتراع المعبر عن الاتجاه الغالب شعبيًا، في حين أن الشعوبية هي استمالة عواطف الشعب والانقياد وراء أهوائه.
ونظن أن الانتصار للشعب يجب أن يخضع إلى عقلنة معمقة وحكيمة وراشدة، بمعنى أن الانتصار للشعب يكون حسب صواب المواقف ومصداقيتها ومشروعيتها لا من منطلق العصبية الشعبويّة المصطنعة.
لذلك، فإن الخطاب الشّعبوي يعكس إفلاسًا حقيقيًا لكل من يتبناه ويؤمن به ويمارسه. فمن يحمل مشروعًا وله برنامج وصاحب رؤية لتقدم المجتمع وحلول للمشاكل الاقتصادية لا ينخرط في الشعوبية الشبيهة بالمخدر.
كما أن توقفنا عند هذا الموضوع بالذات إنما يعود إلى سببين بالأساس؛ الأول أن الشعبويّة توجه سياسي سلبي ومظهر من مظاهر الغش والخداع وهدر الوقت. أما السبب الثاني، فيتمثل في كون المشاكل التي نعرفها اليوم والتي تثقل كاهل شعوبنا هي اقتصادية ومالية أولاً وأخيرًا. فهل أن الشعبويّة، التي تمارسها بعض الأحزاب المعارضة في تونس اليوم مثلاً، يمكن أن تكون حلاً من حلول معالجة تراجع الدينار التونسي وصعوبة دوران عجلة الاستثمار الاقتصادي؟
هل أن الشعبويّة ذات التاريخ السيئ في العالم يمكن أن تحل مشاكل التنمية والبطالة والفقر في بلداننا؟
أظن أن الشّعبويّة اليوم مشكل ولا يمكن أن تكون حلاً، اللّهم إذا تعلق الأمر بالانتهازيين السياسيين وأيضًا المؤسسات الإعلاميّة، التي تشتغل على الفرقعات كمعادل للشّعبويّة السياسيّة وتهتم بالسطحي على حساب المهم والأساسي.
أيضا الرقص على انفعالات الشعب أو تقديم الخطاب الذي يمكن أن يلهب مشاعره هو تضخيم للمشاكل وللأزمات الاقتصادية باعتبار أن المشاكل الاقتصادية تعالج بالعقلنة وبالخطاب الذي يتوجه للعقول لا إلى الانفعالات.
إن طبيعة اللحظة الراهنة لا تتحمل غير مخاطبة عقل الشعوب في بلداننا: عقود طويلة ونحن نخاطب الوجدان والانفعالات ونخبًا تعزف على أوتار مغلوطة وناقصة والنتيجة عطب حضاري هائل... لا حل غير مخاطبة العقل والتصدي لأرباب الشعبوية الذين يعطلون القاطرة المعطلة أصلاً.