خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من الطربوش إلى السدارة

تنوع العراقيين من مميزات العراق. وانعكس هذا التنوع في لباس رأسهم. تراهم في هذه الأيام برؤوس عارية. وحدث ذلك لأنهم لم يستقروا على لباس. اختلفوا عليه. كان أهل المدن من الطبقة المتوسطة، الأفندية، يلبسون الطربوش الذي يسمونه «فينة». شاع بصورة خاصة بين اليهود. أبناء الطبقات المسحوقة والحرفيون يلبسون الطاقية والعرقجين والشراوية والأشماغ. ومن المعتاد في الريف أن يلبس الفلاحون والبدو العقال. رجال الدين يلبسون العمائم، ولا حصر لأنواعها ومدلولات كل نوع وكل لون منها. وعندما نال العراق استقلاله تحير القوم فيما يلبسون بما أوحى للمونولوجست الشهير عزيز علي أن ينظم مونولوجًا كاملاً يسخر من ذلك ويقول: «لبس الراس أصبح يا ناس أشكال أجناس».
وكما قلت، يعكس هذا التنوع في لباس الرأس تنوع الهوية العراقية، بل وحتى الانتماء. فكثيرًا ما كانت لكل قومية وطائفة لباسها الخاص للرأس. وتستطيع أن تحدد انتماء الرجل مما يضع على رأسه. وجد الملك فيصل الأول أن هذه الظاهرة تعكس انقسام الشعب العراقي. فسعى لتخطي ذلك بتوحيد لباس الرأس. ولكن لسوء الحظ أساء الاختيار. فالسدارة التي اختارها واقتبسها من جنوب أوروبا تصلح للأوروبيين وتزعج المواطنين العراقيين. فهي أولاً مكلفة وثانيًا لا تقي لابسها من الشمس والمطر. لم تلقَ رواجًا أو شعبية بين الأفندية، ناهيك عن الشغالة. سموها على اسمه «فيصلية». لبسناها جميعًا في المدارس.
طرح الملك فيصل هذا الموضوع على المفكر الكبير أمين الريحاني. كتب في مذكراته يقول: «سألني الملك سؤالاً مضحكًا ولكنه لم يضحك أحدًا. قال ما رأيك يا أمين بالعمامة والبرنيطة؟ وأي شكل تراه مناسبًا لنا في العراق؟ قلت له إن العرب في تهامة واليمن يلبسون الشبقة، أي البرنيطة. وهي من صنع أيديهم لتقي رؤوسهم حر الشمس. وهم عرب مسلمون. فما ضير بقية العرب في استعمالها؟».
لم يقتنع الملك بذلك وأصر على تبني السدارة التي لقيت اعتراضًا واسعًا بين العراقيين. فلم يشع استعمالها.
حاول البعثيون تصحيح ذلك عند تسلمهم الحكم، ولكنهم زادوه تعقيدًا وسخرية عندما أخذ زعيمهم صدام حسين يلبس البرنيطة السويسرية ذات الريشة.
كان الريحاني عاشقًا للتطور في كل شيء. بيد أن رستم حيدر، كاتم أسرار الملك اعترض على ذلك وقال إن العيب في التطور أنه يأخذ وقتًا طويلاً. ولا عجب فقد كان رستم حيدر متهمًا بالبلشفية في إيمانه بالطفرات والقفز إلى الأمام. استقر الرأي على السدارة. وثبت أنها أبعد ما تكون عن الطاقية والطربوش والأشماغ والعقال. وبعد أن سميت باسمه فيصلية، بذل الملك فيصل جهودًا كبيرة في إشاعة استعمالها بين العراقيين. كثيرًا ما وزعها بيده على أصحابه. ولكن استعمالها بقي محصورًا بالأفندية.