د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

«جاستا» تغييب للعدالة

العدالة قيمة معيارية ومفهوم أخلاقي، تنطلق من خلال حزمة من المقاييس والمعايير الأخلاقية والقانونية، وقد كان إفلاطون يفهم العدالة على أنها فضيلة أساسية، بينما أرسطو نظر إليها على أنها الجمع بين الفضيلة والعمل الخيري.
فالعدالة ليست نهجا براغماتيا يرى العدل في ضفة مصلحته، كما عبر عنه قانون «جاستا» الوجه الذي كشف عنه الانهيار الأخلاقي الأميركي جراء إفلاس الخزانة الأميركية، فقانون «جاستا» أو قانون العدالة ضد «رعاة الإرهاب» الذي وضع كخطة بديلة لملء الخزانة الأميركية عند فراغها، من خلال شرعنة حزمة من القوانين تطال سيادة الدول وتنهب أموالها تحت بند التعويضات، يسمح للقضاء الفيدرالي أن يسلب الحصانة السيادية للدول، بل يخول سلطة المحكمة الفيدرالية تناول الدعاوى المدنية ضد أي دول أجنبية دون الحصانة السياسية حول إصابات نتجت عن عمل إرهابي، حيث يجوّز هذا التشريع المتعسف للمواطن الأميركي المتضرر رفع دعوى مدنية ضد دولة أجنبية في هذ الإطار، دون النظر إلى وجود حالة التآمر الحكومي من عدمها، وبالتالي لن تكون هناك دولة أجنبية محصنة أمام السلطات القضائية الأميركية، كما نصّ قانون جاستا الذي صدر دون أن يحدد مفهوما متفقا عليه حول ما هو الإرهاب؟ وطبعا سيبقى مفهوم وتعريف الإرهاب وفق البراغماتية الأميركية، وليس وفق التعريف الدولي، مما سيجعل من عدوان إسرائيل «حق دفاع» عن النفس وقتل الفلسطيني وهدم بيته «مكافحة للإرهاب» بالمفهوم القضائي الأميركي.
قانون جاستا لم يأت لجلب العدالة أو جبر الضرر كما روّج له المشرع الأميركي، الذي قفز حتى على فيتو أوباما.
جاستا هو شرعنة لنهب الأموال، وليست السعودية وحدها من سيطالها القانون، بل كان هناك من سبقها ولديه أموال وأصول ثابتة ومنقولة في الولايات المتحدة تعرضت للابتزاز والنهب، فليبيا مثلا التي لديها أموال مجمدة في خزائن الولايات المتحدة، ستكون عرضة لهذا الابتزاز الرخيص، وقد سبق أن تم ابتزازها في قضية لوكربي، وحكومة القذافي دفعت مليارات عن يد وهي صاغرة، وكان هذا الحال في غياب قانون جاستا، فماذا سيكون الأمر في وجود قانون جاستا الذي يشرعن لنهب الأموال بمواد وبنود تقبل التأويل.
جاستا جاء للسيطرة على الأموال السعودية الموجودة داخل الولايات المتحدة، سواء كانت أصولا ثابتة أو منقولة، سواء كانت أموالا مسيلة أو عقارات وشركات وأسهما وسندات.
فبداية النهب كانت بالتجميد الأميركي لأموال الدول بذرائع متعددة، طالت من الأموال الليبية أكثر من مائة مليار دولار في الماضي.
فراغ الخزانة الأميركية المتكرر، سببه لعبة مالية قذرة بسبب عجز الرهن العقاري عن تغطية قيمة القروض، واتساع الفجوة بينهما، كما حدث في السنوات الماضية، مما يتطلب تدفق مئات المليارات (من الخزينة الأميركية) لإنقاذ أصحاب المصارف وأصحاب الفائدة، في ظل تخفيضات الضرائب على الأثرياء من جهة، وتزايد الإنفاق العسكري من جهة أخرى لتمويل الحرب الأميركية في العالم، حيث شكلا السبب الرئيسي في هذا الانهيار. فالاقتصاد الأميركي وخزانته سبق أن صك أوراقا على أنها دولار لا تحمل رصيدا ماليا.
فالمنقذ لهم الآن هي الدولة والخزينة العامة، التي ينبغي ضخ أموال جديدة لها، ولو عبر الابتزاز السياسي والأموال المجمدة للدول الأخرى.
الأزمة المالية الأميركية هي السبب الرئاسي وراء قانون «جاستا» لضخ أموال جديدة في السوق الأميركية من خلال التعويضات، لعبة سبق أن مارستها الولايات المتحدة بنكهات متعددة، كشفت عن فساد النظام المالي الأميركي، مما يستدعي إعادة النظر فيه، بل حتى في صياغة دستور أميركا، شعارها «دعه يعمل دعه يمر»، ليظهر للعالم مدى فساد النظام الأميركي وأن الرأسمالية الأميركية لا تعترف بالفقير ولا بالجائع، فما تنفقه أميركا على الحروب يكفي العالم كله سلة غذاء.
قانون جاستا استمرار وجوده بصيغته الحالية سيتدحرج ككرة الثلج ويطال أميركا نفسها في حروبها وحجم الضحايا التي تسببت فيها في كل مكان. فهل ستعيد أميركا النظر في «جاستا» بعد تحذيرات جون برينان رئيس المخابرات الأميركية بقوله: «إن مشروع القانون ستكون له تداعيات خطيرة على الأمن القومي الأميركي».