خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ذكريات لندنية.. من صحائف الكرم الإنجليزي

من تجاربي الطويلة مع شعوب أوروبا الغربية، وجدت أن الإنجليز يتميزون من بينهم ويبزونهم بالكرم والطيبة. وهذا ما جعلهم الدولة الأولى بالنسبة لعددهم في تقديم المساعدات للشعوب عند النكبات. وهم يعتزون بطيبتهم هذه ويفخرون بها. فمن الحكايات التي يروونها لأولادهم في المدارس أن إنجلترا كانت وثنية، وبعث أسقف باريس بقسيس لهم ليهديهم لدين المسيح. مكث هذا نحو سنة بينهم يبشرهم ثم عاد ليروي لسيده الأسقف في باريس عن تجاربه معهم وطيبتهم. وعندما انتهى سأله الأسقف: وماذا يسمون هؤلاء القوم؟ قال يسمون الإنجليز. فابتسم الأسقف وقال له: هؤلاء ليسوا إنجليزا وإنما هم إينجلز (ملائكة)!
شعرنا، نحن الأجانب، في الخمسينات بهذا الكرم وتلك الطيبة. كانت الحياة صعبة وبعض المواد الغذائية مقننة، وكانت المطاعم والدكاكين تغلق أبوابها في بعض المناسبات كأيام الكريسماس، فلا يعرف الأجنبي أين يذهب وأين يأكل، كان كثير من العوائل الإنجليزية تستضيفنا، وكنت واحدا ممن تلقوا دعوة لقضاء الكريسماس مع عائلة. كان من المعتاد أن يجد التلاميذ في لوحة الإعلانات بطاقات دعوات من عوائل لقضاء أيام الإجازات أو نهاية الأسبوع معهم.
وكثيرا ما دعوا التلاميذ لبيوتهم جزافا، كنت جالسا مع زميل في مطعم وسمعني رجل نتكلم العربية فسألنا عنها فأجبناه، ثم سألنا عن أوطاننا، وأخيرا دعانا لمائدته ثم دعانا لتناول العشاء في بيته يوم الأحد، لبينا الدعوة وفاجأنا بمائدة سخية ووافرة، وقضينا الأمسية مع العائلة نتبادل الكلام والتجارب، ثم أوصلنا بسيارته إلى المحطة.
هذا، كما وجدت أمرا شائعا في بريطانيا، ضيافة من دون غرض أو مصلحة.. وكثيرا ما أدت هذه الدعوات لبعض المقالب. لبى تلميذ عراقي مثل هذه الدعوة، جاءت سيدة البيت بدجاجة طبختها توا وذهبت للمطبخ لتعد وتأتي بالخضار والمواد الأخرى، وعندما عادت وجدت أنه قد أكل الدجاجة بكاملها ظنا منه أنها كانت له وحده وليس لكل العائلة!
وفي مقلب آخر حضر زميلي عبد الرحمن الكيلاني لدعوة عمياء مشابهة، وعندما جاءت سيدة البيت بطنجرة اللحم وجد أنه كان لحم خنزير؛ فاعتذر عن الأكل لكونه مسلما، اعتذرت عن جهلها ورجعت للمطبخ وطبخت ثماني بيضات لكل الأسرة، اعتبرت أن من غير اللائق أن يأكل هو شيئا والأسرة تأكل شيئا آخر، (لحم خنزير). كانت ضيافة وكرما زائدا وكياسة واحتراما.
من أروع مظاهر الكرم الإنجليزي في هذه الأيام الأكياس والصناديق الموجودة خارج مخازن الأغذية وفوقها لوحة تقول: «تبرع للاجئين العالقين في كاليه». تراهم يسرعون بعلبة لحم أو جبن أو بطانية أو ثياب أطفال، ويضعونها في هذه الأكياس. يأتي رجل، أي رجل كان، بسيارته ويأخذها ويعبر بها البحر إلى كاليه ليعطيها للاجئين العالقين من دون حساب أو كتاب. ويعود من دون ضجة، من دون قال وقيل.
ومن بدائع الكرم الإنجليزي فكرة «التوصيلة» (هتش هايكنغ) طوروها منذ الحرب. تقف وتشير إلى أي سيارة مارة لتأخذك وتوصلك لأقرب نقطة تريدها. وكثيرا ما ارتبطت بالضيافة، عندما يدعوك السائق لتناول الطعام معه.