باسم الجسر
كاتب لبناني
TT

كوابيس لا بد من التخلص منها

الموضوع الرئيسي في وسائل الإعلام الفرنسية طوال شهر أغسطس (آب) المنصرم لم يكن الشرق الأوسط الملتهب، ولا الانتخابات الأميركية، ولا أولمبياد ريو دي جانيرو، بل قضية «البوركيني». وهو اسم مركب من كلمتي «البوركه» و«البيكيني»، أي البرقع ومايوه السباحة في الغرب. رؤساء بلديات جنوب فرنسا اتفقوا على منع المسلمات المرتديات للبوركيني المغطي للجسم والشعر، من ارتياد الشواطئ وممارسة السباحة فيها. ومجلس شورى الدولة الفرنسي أفتى بلا دستورية قرار البلديات لتعارضه مع حقوق الإنسان وحريته. أما رجال الحكم والسياسيون فقد تباروا في تأييد قرار المنع وقرار مجلس الشورى وانتقاده، كون معركة الانتخابات الرئاسية باتت قريبة.
الحقيقة الأكيدة الراهنة في هذه الضجة الكبرى حول لباس السباحة، هي أنها ما كانت لتهز فرنسا لو لم تتعرض مدينة نيس وباريس وأماكن أخرى فيها إلى عمليات إرهابية ضخمة أودت بحياة المئات، وكان مرتكبوها من المتطرفين التابعين لـ«داعش» أو متهوسين. فالرأي العام في فرنسا وفي أوروبا والولايات المتحدة بات يربط في ذهنه بين الإرهاب والإسلام. حتى ولو دأب المسؤولون وقادة الرأي على التفريق بين الإسلام كعقيدة دينية وبين المتطرفين الذين - باعتراف الجميع - لا يشكلون نسبة واحد في المائة ألف من تعداد المسلمين في فرنسا والعالم.
لقد نجح «داعش» و«القاعدة» قبله وتنظيمات دينية - سياسية أخرى عن طريق الإرهاب الأعمى، سواء في الدول الغربية أم في دول عربية وإسلامية، في تحقيق أكثر من هدف، ومنها بث الرعب في المدن والأراضي التي احتلتها، وتعميم الفظاعات بواسطة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وذلك تحت راية شعارات لا تمت إلى الإسلام بصلة، مما خلق تشويشا في الأذهان وربط ذلك بالإسلام. ومنها أن هذين التنظيمين بضرباتهما في مصر وتونس يحاولان تعطيل السياحة فيهما، وبالتالي يسعيان للتأثير عليهما اقتصاديًا، وذلك هدف آخر غايته إثارة نقمة الشعب على حكامه، أيًا كانت نياتهم أو برامجهم أو إنجازاتهم.
وسواء قصد «داعش» والتنظيمات المماثلة له ذلك أم لم يقصد، فإنه أحدثت فجوة حذر ورفض - وأحيانا عداء - في الغرب بين المسلمين الذين يعيشون فيه وأبناء تلك البلاد، فلولا العمليات الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا، لما كان الفرنسيون يثيرون هذه الضجة على هؤلاء المسلمات، ولا كان المرشح للرئاسة الأميركية يصرح بأنه سيمنع دخول المسلمين إلى الأراضي الأميركية. ويكفي، اليوم أو غدًا، أن يقوم بعض المتطرفين بعملية إرهابية قبيل يوم الانتخابات الرئاسية الأميركية، لكي يتحول قسم كبير من الناخبين إلى جانب المرشح اليميني المتطرف في الولايات المتحدة وفي دول غربية أخرى، حتى إذا باتت الدول الغربية محكومة بأحزاب أو رؤساء يمينيين أو قوميين متطرفين تحققت نظرية «صدام الحضارات» بين الغرب والعالم الإسلامي التي يروج لها منذ سنوات.
إن إعلان «داعش» قيام دولته المزعومة لا يترك مجالاً للشك في أن غاية هذا التنظيم الإرهابي تتعدى حكم سوريا والعراق، وهو لا ينكر ذلك، ولكن ألا تعي هذه الجماعات الإرهابية أن العالم سيجثثها مهما علت وتجبرت، فهل بمقدورها أن تقف أمام الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا، والصين والهند واليابان، أي ثلاثة أرباع البشرية.. دول تملك آلاف القنابل النووية والصواريخ التي تطلق بكبسة زر في حال نشوب حرب بين عوالم مختلفة الحضارات؟
يرد البعض على هذا التصور «الأبوكاليبتي» بأن الأمور لن تصل إلى هذا الحد من المجابهة الشاملة، وأن المعارك الدائرة اليوم مهما طال أمدها وتضاربت المصالح والتحالفات فيها، سوف تنتهي بعد سنة أو سنتين أو خمس. ربما. ولكن ماذا عن تداعياتها التي ستشكل عائقًا للتعاون المنشود مع الشعوب الأخرى في العالم؟ وهو تعاون إلزامي بعد أن دخلت البشرية في حقبة تاريخية واقتصادية وبيئوية وتواصلية جديدة، وبات العالم قرية صغيرة، بل بيتا صغيرا يضيق بسكانه الـ10 مليارات بعد ربع قرن، وبات مهددًا بالتلوث البيئوي، وارتفاع الحرارة وتحديات طبيعية أخرى، في انتظار السلام الصعب في الشرق الأوسط، وهبوط درجة الحرب الباردة الجديدة بين واشنطن وموسكو، وتقلص حجم الأذى الذي يلحقه «داعش» وأمثاله بالمسلمين في العالم والغرب.. فمتى يتوقف تقتيل العرب والمسلمين لبعضهم بعضا، وتهجير الملايين من ديارهم، ومتى سيقف تقاتل الدول الكبرى فوق رؤوس العرب وبواسطتهم وعلى حسابهم؟