جستن فوكس
TT

أميركا ومواجهة «التوسع الإمبريالي»

منذ تسعة وعشرين عاما، ابتدع المؤرخ باول كيندي مصطلح «التوسع الإمبريالي»، ليصف ما يحدث للدول العظمى عندما يصعب عليها تحمل التزاماتها الدولية المتسعة. قال كيندي إن الولايات المتحدة التي كانت تنفق بسخاء على ميزانية الدفاع في عهد الرئيس السابق رونالد ريغان قد بالغت في الإنفاق الدفاعي.
وكما اتضح من خلال كثير من النقاط التي ذكرها في الفصل الأخير من كتابه الذي صدر بعنوان «ظهور القوى العظمى وسقوطها: التغييرات الاقتصادية والصراع العسكري من عام 1500 حتى عام 2000» بدا كيندي اليوم نافذ البصيرة. فقد عانى الاتحاد السوفياتي من التوسع المفرط بدرجة فاقت معاناة الولايات المتحدة. فقد ذكر المؤرخ في كتابه أن تركيز النشاطات الاقتصادية سوف ينصب على قارة آسيا مع سطوع شمس الصين كأحد أقوى اقتصاديات العالم، وهو ما حدث. وتوقع أن تواجه الولايات المتحدة عجزا ماليا واختفاء الأعمال الحرفية وتراجع القوى الاقتصادية، وهو ما حدث أيضا. وبدا كيندي، وهو الأستاذ بجامعة ييل، مقتنعا بأن نفقات الدفاع سوف تمثل عبئا متزايدا على الولايات المتحدة.
ومنذ نشر كيندي كتابه عام 1987 تراجعت نسبة الناتج المحلي الإجمالي التي توجه للجيش في الولايات المتحدة من 6.1 في المائة إلى 3.3 في المائة.
استمر معدل الإنفاق على ما هو عليه، بحسب سعر الدولار الأميركي، فكانت أرقام الإنفاق عام 2015 هي نفسها أرقام عام 1987، ويرجع سبب تقليص حصة الجيش من الناتج المحلي الإجمالي إلى النمو الاقتصادي.
وحتى الآن لم يرتفع الإنفاق العسكري، لأن تفكك الاتحاد السوفياتي وضع نهاية للحرب الباردة، الذي أدى بدوره إلى تقليص الإنفاق العسكري في التسعينات من القرن الماضي في الولايات المتحدة وفي غيرها من دول العالم (كل هذه الأرقام موجودة بالتفصيل في قاعدة النفقات العسكرية بمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام). وكما ترى، فقد توقف الإنفاق عن التراجع في نهاية التسعينات، ثم ارتفع بقوة في العقد الأول من الألفية الجديدة. ويرجع السبب في ذلك جزئيا إلى أن الولايات المتحدة التي تعد أكبر دول العالم إنفاقا على التسليح دخلت حروبا في أفغانستان والعراق، وأيضا إلى صراعات ما بعد الحرب التي اشتعلت في دول أخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا.
غير أن نفقات الدفاع عالميا ارتفعت أيضا في الحقبة التالية لعام 2000، بسبب النمو القوي للاقتصاد العالمي خارج الولايات المتحدة، مما دعا الدول الناشئة إلى أن تستثمر في جيوشها من دون أن تثقل على اقتصادياتها. تعتبر الصين من أكثر الأمثلة وضوحا، حيث ارتفع الإنفاق العسكري أكثر من عشر مرات، بحساب الدولار الأميركي، خلال الفترة من 1989 حتى 2015. رغم تراجع نسبة إجمالي الناتج المحلي المخصصة للدفاع من 2. 5 في المائة عام 1998 إلى 1.9 في المائة عام 2015. في تلك الفترة، احتلت الصين المرتبة الثانية في الإنفاق العسكري عالميا.
يعتبر كل هذا متسقا مع قصة كيندي عن الصعود والهبوط. وقد بدأت الدول ذات النمو الاقتصادي المتسارع، وهي الصين والهند تحديدا، في محاولة اللحاق بالدول العظمى المهيمنة، إلا أنها لا تزال متخلفة بمسافة كبيرة خلف الولايات المتحدة؛ فالهند تبدو حليفة للولايات المتحدة، في حين لا تبدو الطموحات العسكرية العالمية للصين في حجم طموحات الاتحاد السوفياتي السابق. ومع ذلك، من الممكن تصور أن تقوم الولايات المتحدة في المستقبل المنظور برفع نسبة إنفاقها العسكري من الناتج القومي الإجمالي بشكل ثابت مع تزايد التهديد الأمني لها بشكل يفوق سرعة نمو الاقتصاد.
موضوع الإنفاق العسكري ليس بهذا السوء من الناحية الاقتصادية. فالولايات المتحدة تتولى إنتاج أسلحتها، وشراء مزيد منها قد يكون عاملا محفزا، رغم أن بعض الاقتصاديين يقولون إن هذا التأثير يتلاشى حال جرت عملية الشراء عن طريق الاقتراض.
لا تزال مقايضة كيندي «الأمن مقابل الاستثمار» تؤخذ في الحسبان في هذه النقطة، فهل الولايات المتحدة قريبة من ذلك؟ ربما لا. لكنني لا أرى سببا في أنه يجب علينا أن نكون محصنين من التوسع الإمبريالي للأبد.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»