عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

علي إبراهيم.. صحافي حتى النفس الأخير

قبل عامين تقريبًا خصصت مقالي في هذه المساحة لنعي الزميلة والصديقة العزيزة فوزية سلامة، رحمها الله، التي عرفها كثيرون من خلال مشاركتها في تقديم برنامج «كلام نواعم» على قناة «إم بي سي»، وعملها رئيسة لتحرير مجلة «سيدتي» ومسؤولة لتحرير مجلة «الشرق الأوسط»، وعرفتها عن قرب من خلال زمالتنا الطويلة وصداقتنا في مشوار الصحافة العربية في لندن لأكثر من ثلاثين عامًا. كتبت في مستهل تلك المقالة أن «الموت يأتي مفاجئًا حتى عندما يكون متوقعًا»، واليوم أجد نفسي مستعيرًا للعبارة ذاتها التي ألحت علي عندما جلست لأكتب عن رحيل الزميل علي إبراهيم نائب رئيس تحرير «الشرق الأوسط». فخبر الوفاة جاءني صاعقًا عندما تلقيته من زملاء وأصدقاء أعزاء وأنا أستعد لموعد الإفطار الرمضاني.
شريط من الذكريات مر أمامي، بحلوها ومرها، بأفراحها وأحزانها. تذكرت زملاء أعزاء في هذه الصحيفة رحلوا عنا، معظمهم تحت وطأة المرض، ومنهم من عانى من تعب القلب وأزماته. تذكرت الأستاذ محمود كحيل أحد أفضل رسامي الكاريكاتير في العالم وليس في العالم العربي فحسب، والأستاذ أحمد عباس صالح، والأستاذ طلعت المرصفي، رحمهم الله رحمة واسعة. تذكرت أيضًا زملاء رحلوا بعد مغادرتهم الصحيفة التي قضوا فيها سنوات طويلة مثل الأستاذ محمود عطا الله نائب رئيس التحرير الأسبق، والأستاذ وفائي دياب مدير التحرير الأسبق، والأستاذ الأديب نجيب المانع، والأستاذ فوزي حداد سكرتير التحرير السابق في القسم السياسي، والأستاذ عدلي الحاج، وآخرين رحمهم الله جميعًا ورحم كل زملاء المهنة الذين ارتحلوا عنا.
كان الأخ الأستاذ علي، رحمه الله، قد نقل قبل أيام إلى المستشفى بعد أزمة قلبية حادة، هي الثانية منذ العام الماضي، وقال الزملاء إن حالته بدت صعبة وحرجة هذه المرة. أذكر أنني عندما هاتفته مطمئنًا على صحته بعد مغادرته المستشفى بعد الأزمة الأولى، قلت له إن مهنتنا متعبة، وإن دوامة عملنا لا ترحم ولا تتوقف مع تسارع الأخبار، وضغوط الصفحات ومواعيد إغلاق الطبعات، وإن من الأفضل له أن يجد صيغة للعمل تريحه قليلاً وتتناسب مع وضعه الصحي. رغم اتفاقه معي فإنه بدا تواقًا للعودة إلى مكتبه وإلى عمله.
لا يعرف حجم العمل والتعب والضغوط التي تأتي مع تحمل المسؤولية في صحيفة بحجم «الشرق الأوسط»، إلا من جرب. صحيح أن حلاوة العمل لمن يحب مهنة الصحافة، وروح الزمالة، وعقلية الفريق في صالات التحرير والإنتاج والإدارة تعطي الإنسان دفقًا من الطاقة والحيوية، لكنها لا تلغي حقيقة أن هذه المهنة سميت مهنة المتاعب لسبب ربما لا يدركه إلا من عمل فيها. توليت شرف العمل نائبا لرئيس التحرير في «الشرق الأوسط»، وقبلها مساعدا لرئيس التحرير، ومديرًا للتحرير ومسؤولاً عن القسم السياسي فيها لعقدين من الزمن وأعرف حجم العمل وعشت معاناته ومتعته.
التحق الزميل الراحل علي إبراهيم بـ«الشرق الأوسط» محررًا بالقسم الاقتصادي عام 1990 قادمًا من صحيفة «البيان» الإماراتية، التي عمل فيها محررًا اقتصاديا ثم رئيسًا للقسم. أذكر أنه بسبب تغييرات في القسم الاقتصادي عرض علي ضم الزميل علي إلى القسم السياسي، فتحدثت معه وأبلغته بطبيعة عملنا الشاق في القسم، وما يقتضيه ذلك من ساعات أطول وجهد أكبر مما اعتاده في القسم الاقتصادي. رحب بالتحدي وذكرني بأنه عمل في وكالة أنباء الشرق الأوسط واعتاد على قسم الأخبار. كانت تلك نقلة مهمة في مسيرة علي، ورغم الصعاب التي واجهته في البداية للتكيف مع ساعات وطبيعة عملنا وروح الانضباط في القسم، فإنه سرعان ما أثبت كفاءته وجدارته التي أهلته لاحقًا لكي يخلفني في عام 2007 رئيسًا للقسم، قبل أن يرقى في ديسمبر (كانون الأول) 2009 مساعدا لرئيس التحرير. وعندما غادرت موقعي نائبا لرئيس التحرير بطلب مني في مايو (أيار) 2010 كان علي هو خلفي مرة أخرى.
كان، رحمه الله، إلى جانب كفاءته المهنية، شخصية اجتماعية مرحة، تسبقه دائمًا في صالة التحرير ضحكته المجلجلة. لم يكن يدع أي مناسبة تفوته رغم كل ضغوط العمل ومتطلباته، وكان يحرص على لقاء أصدقائه بانتظام بعد ساعات العمل، لأنه لم يرد أن يحرمه العمل من الجانب الاجتماعي فيه. كان ذلك كله على حساب وقته وراحته، وكلفه الكثير بلا شك مثلما أعطاه الراحة التي كان ينشدها بطبيعته الاجتماعية، وأكسبه محبة أصدقائه. لكن حبه الكبير كان دائمًا لعمله بعد أسرته، ولا أحسب أنه بخل على عمله بوقت أو جهد أو عطاء. سقط بالأزمة القلبية التي داهمته مرتين أثناء عمله وفي مكتبه.
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وألهم زوجته وبناته وكل أسرته الصبر على فقدهم الكبير. والعزاء موصول لكل أصدقائه ولزملائه في «الشرق الأوسط» الذين سيفتقدون مهنيته.. وضحكته المجلجلة.