خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

عندما يتسلط المجانين على عقول الناس

الدكتور جعفر هادي حسن، بحاثة فذة من أهل النجف. ولكنه لم يشغل باله بالتاريخ الإسلامي ومشاكل المسلمين. كرس حياته لدراسة اليهودية واللغة العبرية. درس في كبريات الجامعات البريطانية ونشر مجموعة من الكتب في هذا الميدان. وقعت بيدي مؤخرًا الطبعة الثالثة من كتابه الجليل والممتع «الدونمة بين اليهودية والإسلام».
من أركان الديانة الموسوية «الإيمان بمجيء المسيح المخلص الذي ينقذ البشرية وينشر العدل والسلام في العالم». وقد استغل الكثير من الأفاقين والمجانين طوال القرون الوسطى في أوروبا هذه الفكرة. يستعرض كتاب الدكتور جعفر حياة الكثيرين منهم ويسرد علينا حكايات طريفة تبلغ درجة الكوميديا. ثم ينتهي الكتاب بتناول حكاية هذا الدجال العجيب شبتاي صبي، الحاخام الذي ظهر في اليونان في القرن السابع عشر ولم يدع بأنه ذلك المسيح المنتظر وإنما ادعى بأنه يتنبأ بقرب مجيئه وأن الآخرة على الأبواب. راح يحث الناس على بيع ممتلكاتهم وإنفاق أموالهم والرحيل إلى فلسطين انتظارًا لنزول «المسيح المخلص». صدقه الكثير من الأوروبيين المسيحيين واليهود، وفعلوا ما أمر به وهاجروا بالفعل لفلسطين. كانت هناك مستوطنة فيها بقيت حتى قيام إسرائيل من الألمان المسيحيين الذين فعلوا ذلك.
يعتبر مؤرخو الصهيونية أن شبتاي صبي كان من الدعاة الأوائل للحركة الصهيونية وعودة اليهود لأرض الميعاد.
انطلق شبتاي يبشر بدعوته في أوروبا والشرق الأوسط حتى حل به الرحيل إلى إسطنبول. دعاه السلطان العثماني لمحاورته ثم قال له «إذا كنت حقًا كما تدعي فاثبت قدسيتك أمامي بالكشف عن صدرك أمام عدد من جنودي، يطلقون سهامهم عليك لاختبار مناعتك. فما سمع بقرار السلطان حتى قلب الموقف فادعى بأنه ليس حاخامًا وإنما شيخ من شيوخ الإسلام وأنه يبشر بدين محمد! فعفا عنه السلطان وضمه إلى مشايخ القصر السلطاني. ومنه راح يدعو لمزاوجة اليهودية بالإسلام فلحق به الكثير من اليهود الذين اتبعوا هذا المذهب الجديد الذي سموه بالدونمة. ولكن السلطان سرعان ما اكتشف شعوذته وكاد يأمر بإعدامه ولكنه انتهى بنفيه إلى قرية في ألبانيا حيث قضى بقية حياته.
بيد أن المذهب المختلط الذي أوجده وآمن به بعض اليهود بقي بعده يتعلقون بسيرته ويصدقون معجزاته.
كرس الدكتور جعفر ردحًا طويلاً من حياته في دراسة هذه الشخصية ومذهبها، الدونمة. خلص منه إلى أن شبتاي صبي كان يعاني من الكآبة ويمر بحالات من السايكوثيميا. تجرنا حكايته لهذه الظاهرة المأساوية، وهي استعداد الجمهور للانقياد لشخصيات مرضية والوقوع في سحرها والانتهاء بها أخيرًا إلى كارثة. تكرر ذلك في سلسلة من الشخصيات العصابية التي سحرت الناس ثم أهلكتهم، الإمبراطور كاليكولا ونيرون، وفي عهدنا هذا هتلر والقذافي وصدام حسين.
إن من المفارقات أن نطالب أي بواب أو كناس أو سائق سيارة إبراز شهادة طبية وعدم محكومية وحسن سلوك قبل أن نعينه ولا نطالب مسؤولاً وزعيم حزب بمثل ذلك ونتأكد من سلامة عقله.