إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

عمار بغداد وخرابها

لنقل إنني، في البداية، لم أكن مستعدة لتقبّلها بشكل كامل وكما ينبغي لمخلوقتين تعيشان في مجتمع متحضر. كم غبطت تلك الفرنسية التي شغفت ببغداد وتكررت زياراتها لها حتى بلغت 20 سفرة في سنوات قلائل. ربما كنت أغار على مدينتي من سيسيليا بييري، الباحثة التي تذهب هناك بمعدل مرتين في السنة وتقيم في كل مرة ما شاءت لها الإقامة. أما أنا فلم أعد أجد سبيلاً إلى مسقط رأسي بعد أن انطفأ من الأهل من انطفأ، وفرّ من فرّ إلى أربعة أطراف الدنيا. واقع طارد وأفق مسدود ووطن مسخته طائفية مقيتة.
تذهب سيسيليا إلى هناك، عابرة المسافات ومتحدية الصعاب لكي تدور في أرجاء المدينة وتجمع المعلومات وتلتقط الصور. إنها تكتب أطروحة عن بغداد، المدينة التي اكتسبت ملامحها المعمارية الحديثة مع النصف الأول من القرن العشرين، على أيدي مهندسين كبار أجانب ثم عراقيين درسوا في الخارج وعادوا بنظرات جديدة.
قلت لعلها جاسوسة، تأخذ من الدراسة حجة للوصول إلى الأسرار التي تستهوي الأجانب. فأنا من جيل تربى على الخشية وعلى أن للحيطان آذانًا. نتجنب الغريب لأن له نيّة مُبيّتة مشبوهة من الزيارة. وكأن أرض الرافدين لا تستحق أن يقصدها سائح لذاتها ولآثارها ومرابعها وأريحية أهلها. وحتى الصحافيون كانوا ممنوعين من تلبية دعوات السفارات والدبلوماسيين. أما الموظفون فلا حاجة لهم بعلاقات اجتماعية مع الخبراء الأجانب إلا بعد أخذ موافقة ضابط أمن الدائرة. هل تسمح لي بأن أدعو مستر تاكاياكي على أكلة دولمة؟
لم تكن سيسيليا مهتمة إلا بإنجاز دراستها حول العمارة البغدادية ومتابعة تحولاتها على مر العقود. ثم ما هي الأسرار التي ستقتنصها بعد أن دخلت الجيوش الأجنبية إلى البلد وقلبته حجرًا على حجر؟ كانت تعود من هناك ونلتقي لتعرض عليّ ما التقطته من صور للبيوت التراثية وما حصلت عليه من خرائط قديمة للعاصمة، وجدَتَها مهملة يغطيها غبار النسيان. ألا تخافين السيارات المفخخة يا بنت؟ أراها في الصور ترتدي العباءة النسائية السوداء، إذا اقتضى الأمر، وتمشي في الأزقة العتيقة والأحياء الشعبية. تصعد إلى السطوح وتنزل إلى السراديب. تلاحظ وتقارن وتكتب وتوثق وتبحث عن مفاتيح تلك المدرسة البغدادية التي كان رهان مهندسيها: كيف تكون أصيلاً ومعاصرًا في آن؟
حفظ البغادّة وجه الباحثة الفرنسية الحلوة وفتحوا لها بيوتهم ورافقوها لكي تستدل على الطريق، ولمساعدتها في الترجمة، أو لمجرد حمايتها من «السرسرية». فهي ضيفتهم وهم، على مصائبهم، خير من ينتخي ويكرم الضيف. وكان لا بد، في نهاية المطاف، أن تتبدد الشكوك ويحل محلها الإعجاب بهذه المرأة التي تنبش في بغداد ما قد يعجز أبناؤها عن استكناه دلالاته. إن العين الخارجية تلحظ ما تمر عليه العين المقيمة مرور الكرام، بفعل التعوّد. ولأنها ليست طالبة صغيرة تستعجل إنهاء دراستها، فقد عملت مثل نحلة دؤوب وأخذت وقتها في استخلاص الرحيق وتصفية العسل من الشمع.
في آخر لقاء لنا، لاحظت أنها صارت تشبه نساءنا؛ شعر قاتم يتوهج بأطياف الحنّة وعينان محروستان بالكحل العربي. أهدتني سيسيليا بييري مجلدًا كبيرًا أصدرته حديثًا في 450 صفحة، يشتمل على أكثر من 800 صورة ورسم وخارطة. كما حكت لي قصة أحمد مختار إبراهيم، أول معماري عراقي يحصل على شهادته من جامعة ليفربول البريطانية، عام 1936. والكتاب هو أطروحتها التي نالت عليها الدكتوراه من المعهد العالي للدراسات الاجتماعية في باريس. وفيها تتابع بدايات الحداثة في العمارة البغدادية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى أوائل الستينات الماضية. جهد كبير وجميل ومهمّ ولن يمر دون عتب من هنا أو تصحيح من هناك. كيف كان لها أن تتوقف عند أسماء كل أولئك المهندسين والبناءين ذوي الأكفّ المباركة الذين رسموا وجه بغداد؟
حسنًا يا صديقتي، ما أخبار بنايات هذا الزمن ومنازله؟ تفتح المؤلفة كتابها على صور لمدينة تقطع جدران الإسمنت أوصالها، وبيوت صدئت شبابيكها وتهدمت طارماتها. ثم جاءت شركتان، صينية وتركية، وبدل الترميم تخصصتا في تغطية الواجهات المتصدعة بألواح معدنية ذات لون وردي فاقع، مثل زينة العاهرات. معذرة لهن.